مجلة شهرية - العدد (591)  | ديسمبر 2025 م- جمادى الثانية 1447 هـ

حول بعثرة الثقافة

المهموم بـ(الثقافة) بشقيها المادي والمعنوي يعاني من مصاعب شتى في عصر العولمة وما بعدها، فمهما حاول الإحاطة بجزء من جزئياتها، فإنه سيجد ذاته محاطة بالكثير من الأقوال والآراء، وهي أقوال وآراء يدعمها الواقع المعيش، ولكثرتها، فقد يتذكر قول (ابن المقفع) الذي أورده (ابن حيان) في إمتاعه، ومؤدّاه: (إن الكلام يزدحم في صدري فيقف قلمي لأتخيره..)، ذلكم عن العصور التي ارتسمت الثقافة فيها بالثبات نظير ما قدّم لها العلماء والمبدعون من خدمات جعلها تمضي وفاق خيوط بينة وواضحة، نظراً لتميّز عقول مجتمع محدّد ومعلوم، فبيئته واحدة، وإن اتسعت حدودها، فهو يمضي ضمن جنس واحد، وأرض واحدة، ورموز معروفة، وهنا نجد أن هذا المجتمع الذي تجمعه اللغة والدين قد تعامل مع الثقافة على أنها أسلوب حياة، تنشط بنشاطه، وتتألق بتألقه. تكسل بكسله وتتطور بتطوره وفاق مقومات مادية ومعنوية أو كما قال عبدالرحمن زكي في تصديره لكتاب ماري شابيرو (نظرات في الثقافة).
إنه في العصور ما قبل العولمة حدث اختلاط بين الثقافات المختلفة (مادية ومعنوية)، وقد أدّى هذا الاختلاط إلى إيجاد نوع من الصلة والتعامل الذي كان من السهل هضمه ومن ثم حصل الاندماج بين هذه الثقافات، أو كما قال ماري شابيرو.
إن ما سبق يمثل كلاماً مفروغاً منه، وقد عُرف عند أي أحد، غير أن ثقافتنا في هذا العصر - عصر العولمة وعصر الشاشات - لا يستطيع أي إنسان أن يتحدث عنها ولو بصورة موجزة نظراً لبعثرتها، وتداخل الأمم بعضها مع بعض، وكثرة مدّعي الثقافة، وغياب الرموز وانكفاء دور الموجه مع كثرة الجامعات وكثرة الطلاب، وغياب الاهتمام عند معظم من ينتمي للعلم أمام المغريات المادية.
إننا ومع هذا الزخم الثقافي الهائل والناتج عن اختلاط الأمم ينبغي أن نعمل معه، كما عملت أوروبا عند نهضتها من رقدتها واكتشافها حشداً هائلاً من التنوع المعرفي لم تكن تعرف بوجوده من قبل أو كما قال (شابيرو) والتي قدر (ميردوك) عددها بنحو (3000) ثقافة، وكل ثقافة لها خصائصها التي تختلف عن غيرها، مقسماً إياها إلى ثلاث أو أربع ثقافات جديدة اكتشفت على مدى أربعة قرون (من القرن 16 الميلادي وما تلاه..) حيث بدأ علماء (الأنثروبولوجيا) دراسة كل هذا بمعاونة من مراكز العلم والبحث، وهذا أدّى إلى ظهور أوروبا الجديدة علماً وثقافة وحضارة، إلّا أنهم مع هذا العمل المتواصل قد نسوا الإنسان، واهتموا ببناء الثقافة كعلم لا كشأن إنساني أو أسلوب حياة، حيث كانت السرعة في التغير الثقافي، وهذا الأمر أدّى إلى خلل في المجتمع، حيث التفكك في النسيج الاجتماعي، فكان هذا الأمر يسير في طريق مغاير للتألق الثقافي، على أن هذا التألق في بداية عصر النهضة قد أوجد ثقافة متنوعة، فهناك من التزم بالقديم، وهناك من خلط بين القديم والجديد، وهناك من تعامل مع الثقافة تعامل العلم مع الاختراع، فالتزم بالتحديث، وهنا حصل الانفصال بين ماض بني على ثقافة رصينة وبين حاضر جديد ظهرت فيه النظريات المتعددة التي أدت إلى ما نراه اليوم من تبعثر في الثقافة من خلال ظهور علماء يبتدعون ويقترحون ثم يأتون بما هو ضد إلى ما يدّعونه بالجديد.
إن تلك حال، ونحن في هذا العصر نعيش أحوالاً متشعبة، من الصعوبة تحديدها أو تصورها، خصوصاً أن مراكز البحث في العالم قد أصيبت بالصدمة لقاء هذا التطور السريع المذهل في هذا العالم الشائك، وقد زاد الطين بلة على هذه المراكز، ظهور ما يسمى: بـ«الذكاء الاصطناعي» الذي سيشل قدرة الباحثين الجادين، وهنا يختفي دور مراكز البحث العلمي، بل العلماء، وهذا ما لا نتمناه لأن هذا الذكاء لن يخرج باحثاً جاداً، بل يخرج باحثين معتمدين على (الثقافة المعلّبة) التي أصبحت البديل غير المرحب به، والتي لا تجدي ولا تبني، بل تعمق السلبية، وتجعل المراكز البحثية، بل والجامعات تعيش مرحلة انكفاء، إذ لم يعدلها إلّا اسمها التي تحتفظ به فقط.
قال أبو حيان التوحيدي في (إمتاعه)، سأل أحد الأندلسيين: ما صورة الزمان الخالي من الآفات؟، فَرُدَّ عليه:
أن يكون العلم مطلوباً، والحكمة مرغوباً فيها، والأخلاق طاهرة، والقلوب سليمة، والمعاملات متكافئة، والبصائر متقاربة (ص42، ج2).

ذو صلة