مجلة شهرية - العدد (591)  | ديسمبر 2025 م- جمادى الثانية 1447 هـ

الحب والزواج

قرأتُ كتبَ ذلك الكاتب الفذّ الذي أبحرتُ مع كتاباته كما يُبحرُ الربان الماهر في بحر متلاطم الأمواج تحملني شدّة حبكته كما تحملُ الموجةُ الهادرة تلك السفينة العاتية، وعشقتُ بيانه كما يعشق البدويُّ راحلته، وأنا لم أخطّ في العمر إلا خطواتي الأولى، فكنت في عمر الطفولة تلك أعدُّها فإذا بها لا تتجاوز ثلاثة عشر عاماً.
ومن هنا بدأ حبّي وعشقي لكتابات المنفلوطي فهو في نظري كاتبٌ جمع بين جمال السرد وإبداع الطرح ورقّة النفس وعذوبة الروح وجُمع له ما لم يُجمع لغيره من الأدباء في قادم العهد وحاضر الأيام.
واليوم وأنا في عنفوان الشباب أعيد قراءة كتاباته بعد أن فزت بطبعة حملت أعماله الكاملة كغنيمة ثمينة من معرض الكتاب الذي أقيم في عاصمة الأصالة والثقافة الرياض في عام أُرّخَ بألفين وخمسة وعشرين.
ورحت أُعيدُ قراءتها وأنا أتذكّر قراءتي الأولى لها وقد هالني اختلاف التأثير والتفكير، ولعلَّ ذلك الاستغراب والاندهاش يرجعان إلى سرعة جريان الأيام وانصرامها.
فاذا بي أقع على عنوان الحب والزواج في كتابه النظرات فأعجبني ذاك السردُ والإيضاح لذلك الفهم المغلوط عن الحب، وأن الزواج كان يُرى في قادم العهد - كما يُشاع عنه اليوم - أنّه يقتل الحب ويئده، فهالني ذلك واستل الراحة مني فما لبثت أن حملتُ قلمي كما حمله المنفلوطي منذ زمن مضى, وشعرتُ بالغبطة وأنا أُشبه نفسي به فيما ألمَّ بنفسه في ذلك الوقت وداخَلني ما داخَلَ نفسهُ الفذّة من جزعٍ على حال أولئك الحمقى الذين يرون في علاقات عابرة حبّاً وينعتونه بذلك الشعور الجميل ظلماً وزوراً، فالحب لا يُخلقُ بالمجالسة، ولا يكون مَبعثُه الشهوة أو الرغبة، ولا يقتله الملل.
فالحبّ يشعل شرارتُه الأولى الإعجاب فإذا حدثت النفس صاحبها بإعجابه بإنسان رآه أو حادثه أو سمع عنه أو قرأ له فإنها تلك الشرارةُ التي يلد من توهّجها حبّاً ينمو ويكبر بالمعاشرة والمخالطة والإفضاء والإفصاح، وهذا لا يكون إلا بالزواج؛ فالزواجُ عهدُ القلوب ورابطُها المقدس فإذا اكتمل للحبّ ذلك تعمّق وتأصّل حتى يبلغ من القلب مبلغه فلا ترى العينُ أجمل من المحبوب وحتى وإن كان كسيحاً من مظاهر الجمال وصفاته ويجد السعادة في العيش مع محبوبه حتى وإن كان السكن أرضاً جرداء لا زرع فيها؛ فلا يتنفس نفساً إلا وقد اشتَّمَ رائحة محبوبه ولا يُغمض جفناً إلا وقد تراءى له ذلك المحبوب في أحلامه فما أن يفتح عينيه ويراه مستلقياً بجواره إلا ويتنفس السعادة والفرح فيجعله ذلك يحمد الله على هذه النعمة وتلك العطية فما أن يرزق من محبوبه بأبناء حتى يحبهم حباً فطرياً ولكنه يختلف عن غيره من الآباء والأمهات إذ إنه يحب أبناءه لأنهم جزء من محبوبه.
فأيما أسرة نشأت من ذلك الرابط وعلى ذلك العهد أنى لها أن تفشل أو تخذل أو تُذل، لذا كان الزواج بناء لا يُهدم ولا تجرؤ شياطين الإنس والجن على تقويضه أو هدم أركانه، هذا هو الحب الحق، وهذا هو الزواج السعيد، الذي من وجده وجد السعادة والنعيم المقيم في الدنيا والآخرة، أما تلك العلاقات ما هي إلا سراباً يراه العطشان في صحراء قاحله مترامية الأطراف.
فمن أراد الحب فليبحث عن صفات تعجبه وشخصية تناسبه ثم ليرتبط بها بالزواج.
فما الحب إلا اهتمام وإيثار وحنان وانسجام، فالزواج دوحة غناء على مد البصر خضرتها وبساتينها من العنبر والفل والثمار والأنهار فلا مجال ولا متسع فيها للملل والكلل، فكل يوم هو مختلف عما قبله في جوار من تحب، فهل بعد ذلك يعزف عن زواج عازف وينحرف عن أصل الفطر عاقل أريب؟!

ذو صلة