كان انهيار سَدّ مأرب (أو مارب)، في الزمن الغابر، حدثاً رمزياً يشير إلى لحظة فارقة دخلت فيها الحضارة اليمنية مرحلة مأساوية من التدهور والانحطاط.
غير أن الواقعة لم تكن هي السبب الحقيقي في مجمل النتائج التاريخية التي جاءت بعدها أو نُسِبَتْ إليها.
بالطبع للحادثة أصل تاريخي، بل إن انهيار السد نفسه تكرر مرات كثيرة لم يتم الاتفاق على عددها، لكن إحداها فقط خضعت للترميز، وتم تعظيم أثرها ونتائجها، ونسبت ضروب مختلفة من المتاعب والآلام والهجرات إليها، ففي ذلك ربما عزاء سهل لا يخدش الكرامة.
ثم صار الاعتقاد بهذا التفسير وتصديقه دلالة على الانتماء الرمزي إلى الكارثة التي ظلت في الذاكرة تمارس مفعولاً توحيدياً على المستوى النفسي والعقلي بين اليمنيين طوال العصور التالية لوقوعها.
أما في الواقع، فلا شيء يثبت أن الأضرار الناشئة عن انهيار السَّد قد عمَّت أهل اليمن في جميع المناطق والجهات.
بل ليس من المعقول تخيّل هذا من الأساس.
لا يمكن لتلك الواقعة أن تفسِّر فعلياً انهيار حضارة كاملة، ونزوح أهلها جماعياً إلى شتى بقاع الأرض، حتى قيل (تفرقوا أيدي سبأ)، وحكوا أن غسان لحقوا بالشام، والأزد عمان، وجذيمة إلى العراق، والأوس والخزرج إلى يثرب.
وكان المؤرخ ابن كثير قد تنبه لذلك، فقال: (وليس جميع سبأ خرجوا من اليمن لما أصيبوا بسيل العرم، بل أقام أكثرهم بها وذهب أهل مأرب الذين كان لهم السد فتفرقوا في البلاد)، (ابن كثير، البداية والنهاية، ج2، ص 196).
أما تعليل الهجرات الكبيرة بانهيار السد، فإنه ينطوي على ملمح أسطوري نجد له نظيراً في الأدب الأسطوري اليوناني والإغريقي الذي تشكّل مثلاً حول حادثة سقوط مدينة طروادة، فالرومان نسبوا أنفسهم عرقياً إلى النازحين من طروادة، وكذلك فعل الفرانك وغيرهم من الأقوام الأوروبية.
وإذا كان اللفظ (سَد) في اللغة يعني الحاجز الذي يصد مياه السيول ويمنعها من التدفق لتجميعها وتخزينها، فإن هذا يغري باستخدامه مجازاً للدلالة على الاجتماع المنظَّم الذي يتحقق من خلال الدولة التي هي في أبسط صورها انتقال يمرّ بواسطته المجتمع من اللاشكل إلى الشكل كما يتخذ الماء شكله في (السَّد) الذي يحتويه.
إن فكرة (السد) ذاتها هي استجابة عملية للتحدي الذي تفرضه الطبيعة والمتمثل في ندرة المياه والاعتماد كلياً في توفيرها على الأمطار الموسمية، كما أن (الدولة) استجابت للتحدي الذي يفرضه نقص الأمن على الإنسان في (حالة الطبيعة) السابقة للمجتمع والقانون والحضارة.
كان سَدّ مأرب في نسخته القديمة حاجزاً مائياً تم تشييده لأول مرة قبل أقل من ثلاثة آلاف عام على وادي (أذنه) بين مأزمي الجبلين البلق الشمالي والبلق الأوسط، و(جبال البلق هي سلسلة من الجبال تؤلف الحاجز الأخير للمرتفعات الشرقية قبل أن تلتقي بالصحراء).
والعَرِم أو العريم هو السَّد بلغة النقوش، والجمع أعرام، ويُكتفَى في النقوش بأداة التعريف التي تلحق الكلمة في الآخر ودون إضافة (عرمن).
في كتابه (اليمن قبل الإسلام)، جمع الباحث الروسي ميخائيل بيوتروفسكي معلومات مهمة عن السد، ومنها أن المساحة: (تقدَّر المساحة التي كان يرويها سد مأرب والسدود المجاورة له (سد جفينة وغيره) بـ 10 آلاف هكتار أي ما يقل عن 0,2 % من مساحة الأراضي المزروعة في اليمن (المساحة الإجمالية للأراضي الصالحة للزراعة في اليمن تعادل 5 ملايين هكتار)، (بيوتروفسكي، (اليمن قبل الإسلام)، ص281). - (يجب التنويه إلى أن اليمن الذي يقصده المؤلِّف في سياق الأرقام عن مساحة الأرض المزروعة، يقتصر على الشطر الشمالي من اليمن الذي كان يسمى قبل 1990 الجمهورية العربية اليمنية).
يستنتج بيوتروفسكي من تلك الإحصاءات كيف أن السد كان مجرد منشأة ريّ محلية فقط (ولم يؤلف أساساً لمنظومة ري في (كامل) جنوب الجزيرة العربية، كما كانت تعتبره الأسطورة القروسطية القديمة)، وهذا يقلل من حجم الآثار الاجتماعية والسياسية التي تحيلها الأسطورة في العادة إلى واقعة انهيار السد. يقول الباحث اليمني يوسف محمد عبدالله أن سدّ مأرب (في شكله المتطور الذي يعود تاريخه حسب المعلومات المتوفرة إلى الألف الأول قبل الميلاد، ليس سوى محصلة لتجربة حضارية طويلة ورائدة).
ويضيف: (وبمقدار ما كان تعميره رمزاً لازدهار حضارة اليمن القديم، صار تفجّره ذكرى انهيار تلك الحضارة)، (يوسف محمد عبدالله، (سد مأرب)، مجلة الإكليل، عدد أكتوبر 1985).
والسد -كما ذكرنا في البداية- لم يتصدّع مرة واحدة، بل عدداً غير محدَّد من المرَّات.
إلا أن ما بقي عالقاً في الذاكرة هو التصدّع الذي سبق ظهور الإسلام، (فقد كان تفجّراً خارقاً للعادة، كانت كارثة كبيرة أتت على معظم بنيان السَّد وجرفت أكثر منشآت الري وقضت على أسس تشغيل السَّد..)، (يوسف عبدالله، مصدر سابق).
إن أسباب التصدع والانهيار كثيرة، مثل السيول والفيضانات والزلازل، لكن المهم هو التصدع بسبب الإهمال الناجم بدوره عن ضعف الدولة السبئية، الضعف الذي بلغ ذروته نتيجة تحول طرق التجارة من البر إلى البحر، وهو ما أدى تدريجياً إلى صعود مركز سياسي جديد من المرتفعات الجنوبية الغربية في ظفار بقيادة من سيعرفون فيما بعد بالحميريين.
في الخطاب القرآني، يحضر اليمن كموضوع للاعتبار من عواقب جحود النعمة وافتراق الشمل.
قصة سبأ، وسيل العرم، كانت درساً عاماً عن السقوط بعد ارتفاع، والتمزق بعد اجتماع وتألق.
إننا نلمح في التذكير القرآني بذلك المصير رسالة تحذير ذات مغزى إلى بُناة الدولة الجديدة والحضارة الجديدة في وسط جزيرة العرب، بل وإلى كل الفاعلين في التاريخ!
يشبه الأمر التخويف الذي كنا نسمعه هنا قبل 2011م من الصوملة والعرقنة والأفغنة، أي قبل أن تضاف (اليمننة) إلى قائمة النماذج التي ترمز للفوضى والانهيار!
ولا شيء يمنع الآخرين اليوم من التعامل مع سقوط الكيان اليمني الجديد كموضوع للتأمل والاعتبار، تماماً كما تعامل القرآن الكريم مع قصة قوم سبأ قديماً.
إنّ ما يَصْدُق على السَّد العظيم من دورات التصدّع والخراب في التاريخ اليمني القديم، هو أكثر صدقاً على دولة اليمنيين التي تتداعى كل مرة في زمن أقصر من زمن بقاء السَّد قائماً متماسكاً أمام ضغط الترسُّبات أو تخريب القوارض كما تقول أسطورة (الخلد) أو الفأر وفقاً لما هو شائع لدى عامة الناس.
منتصف ثمانينات القرن الماضي، يوليو 1985م، زار اليمن فريق مجلة العربي الكويتية وأطلّ على بلد كان ينفض عن نفسه غبار النسيان ويخرج إلى النور، كما جاء في المقالة التي كتبها منير نصيف عن تلك الزيارة بعنوان (مأرب واليمن الجديد)، والتي استهلها بهذه الكلمات:
(من منا لم يقرأ التاريخ.. تاريخ اليمن القديم وهو يحدثنا عن حضاراته التي دُفنت تحت التراب وبقيت هناك قروناً طويلة. في هذه الرحلة السريعة بين ربوع اليمن شهدت (العربي) قصة بلد نفض عن نفسه تراب النسيان، وخرج إلى النور. إنها قصة اليمن الجديد الذي يلهث للحاق بركب الحضارة والتحديث).
ولا يكاد يخلو كل جزء في المقالة من التأكيد بسعادة على أن هناك حضارة عتيقة منسية تنبعث للتو بعد موت طويل، وكان مشروع بناء سد مأرب معلم أساسي من معالم ذلك البعث.
ثم يقدم الكاتب لمحات متفرقة من زياراته الميدانية للمحافظات عن (النهضة التعليمية التي تشهدها البلاد، وأثرها على التنمية الاقتصادية، وعن سد مأرب الذي بدأت الحياة تعود إليه بعد هذا الرقاد الطويل، وما سوف يترتب على قيام هذا السد من تطور في الزراعة والمشروعات الزراعية. وكلها عناوين جانبية تقع تحت عنوان عريض، هو التحديث في اليمن، أو اليمن الجديد).
لقد كان السد قديماً صورة مادية ترمز للمُتَّحد السياسي، فلما انهار، قيل تفرقت (أيدي سبأ) في الآفاق. ثم أعيد بناؤه في زمن الدولة اليمنية الحديثة، وكان ذلك العمل رمزاً لبعث جديد.
لكن هذه المرة، حين انهارت الدولة اليمنية من جديد، ظل السد قائماً.
لم يعد السد مرآة دقيقة لحال اليمن، لقد نجا هذه المرة من الخراب، لأن الخرسانة الحديثة أقوى من الإجماع الوطني!
قديماً قال نشوان الحميري (توفي 573هـ) متحدثاً عن أهل اليمن القدامى:
مَطرتْ عليهم بعد سُحبِ سُعودهم
سُحبُ النحوس بوابلٍ سحَّاحِ
البيت مأخوذ من قصيدة تتضمن نعياً مطوَّلاً تتخلله مشاعر حنين لكل ما ضاع في الزمن اليمني العتيق من مجد ومُلك وسُلطان، لم يبق منه غير خرائب وأطلال.
على أن لدينا اليوم في اليمن ما ننعاه ونحنُّ إليه أكثر -بل وأعظم- مما كان لدى نشوان الحميري أو الحسن الهمداني، فقد كان مبعث الحنين لديهما عهودٌ وأزمنة بعيدة جداً لم يبلغهم من خبرها وأثرها إلا القليل والضعيف!