مجلة شهرية - العدد (590)  | نوفمبر 2025 م- جمادى الأولى 1447 هـ

إشكاليـة التوافــق


أكثر ما يتجلّى الذكاء البشري في لعبة الشطرنج، بمعونة الحضور المتوهج المستمر. لمست ذلك بعد أن مُنيت بهزيمة مدوية أمام أحد المحترفين ـوهو طبيب، وبرغم اعتماد لعبة الشطرنج على الاحتمالات والقدرة على التنبؤ بخطوة الخصم المقبلة للتحوّط لها، وإفشالها قدر الإمكان؛ فهي تعد من أكثر الألعاب حاجة إلى سرعة الذكاء والدهاء الحاد، فهما جناحا خلاص الخصوم من المآزق التي يُدفعون إليها عند انعدام الخيارات.
الإنسان الذكي مرغوب اجتماعياً على الدوام، يحتاجه المجتمع ولا يكاد يستغني عنه. لكن ما حال الإنسان المفكر؟ وأيهما أهم: الإنسان الذكي أم الإنسان المفكر؟ نعيد صوغ السؤال بشكل آخر: أيهما يحظى بالأولوية لدى المجتمع؟
يميل البعض إلى أن المفكر هو الأهم وله الأولوية، بينما بعض آخر ينظر إلى الذكي بتقدير لافت، فواقع الحياة يمنحه مكانة لامعة، حيث يُعد الشخص الوحيد القادر على إيجاد حلولٍ سريعة للخروج من المآزق الحرجة. البعض الأول يميل إلى التفكير ـالنقدي تحديداًـ والتأمل الهادئ والتحليل؛ لذا، فهو يقدّر المفكر. البعض الثاني يشعر بحبور عظيم عند رؤية اجتماع الحيلة والدهاء والسرعة في شخص واحد هو الذكي، ومهمته إنقاذ المتورطين في دائرة مغلقة، عبر ضمان خروج آمن لهم مما هم فيه من توحل. أولئك يقدّرون الإنسان الذكي.
أوصاف وأحكام
واضح أننا أمام إشكالية الفرق بين (الذكي) و(المفكر)، وهل كلاهما يتساويان من حيث الأهمية في المجتمع؟ ثم هل للتكامل مكان بين الاثنين: الذكي والمفكر؟ يمكن التحدث عن ذلك، وربما. ولعل في استعراض بعض المعطيات تتبلور مقاربة منطقية ومرضية للطرفين، وهذا هو الأهم.
إذا ما أردنا وضع وصفة نحدد فيها سمات الشخص الذكي ومهاراته، فما عسانا أن نقول؟ إن الذكاء قدرات ومهارات، بينها سرعة البديهة، الحفظ، حل المعادلات، التلاعب السريع بالمعلومات، تخطي الأزمات الطارئة، ولفت الانتباه في المسابقات والاختبارات.
أما الشخص المفكر ذو التفكير النقدي -أو لنقل التفكير العقلاني الرزين- فما يميزه هو القدرة على التأمل والتحليل، تقييم المعلومات بموضوعية، نباهة في ربط الأسباب بالمعطيات، تجنّب التحيّز، وفهم العواقب قبل اتخاذ القرار. إنه شخص يسعى للإحاطة بالصورة الكاملة المتكاملة، لا يميل فقط إلى الحلول السريعة، إنما إلى التوافق والتعمق فيه.
في موضوع كهذا لا بد للباحث من الاستعانة بالدراسات التي سبقت في هذا الصدد، للوصول إلى حكم شبه ناجز؛ فقد أوضح بعضها أن التفكير النقدي - أو ما يسمى (Critical Thinking)- أهم من مستوى الذكاء أو ما يطلقون عليه (IQ)، وذلك في النجاح العملي، واتخاذ القرارات الصائبة، وتحصيل نتائج جيدة في الحياة الواقعية.
من الأمثلة: قد تجد أفراداً ذوي معدل ذكاء عالٍ، لكنهم يكررون الأخطاء ويقعون في مشكلات حياتية بسبب غياب التفكير النقدي -والبعض يراه بسبب غياب الوعي- بينما صاحب الفكر المتأني يحقق نتائج أفضل في المواقف اليومية.
باحثون كثر يرون أن المجتمعات تحتاج إلى الذكاء، ولكنها في الحقيقة تُدار وتزدهر عبر الفكر الرشيد. الذكاء وحده قد يؤدي إلى اختراعات أو تجاوز أزمات طارئة، لكن من دون تفكير نقدي أو حكمة، فإن آثار هذه الحلول التي أتى بها الذكاء قد تكون قصيرة الأمد، أو حتى عكسية في بعض الحالات.
إن كثيراً من مشكلات المجتمعات الحديثة، بما فيها مجتمعاتنا العربية والإسلامية، ترتبط بإهمال قيم التفكير العميق لصالح البروز السريع أو المظهري الذي يأتي به الذكاء بالمقابل. إن المجتمعات التي تشجّع التفكير النقدي تنتج قادة أفضل، وقرارات أكثر صوابية، وتقل فيها الحوادث التي تُبنى على الاندفاع أو الانخداع بالظاهر أو المظهرية.
ثمة مقولة لا تُنسب لأحد، لا من السالفين ولا من المعاصرين، تقول: «إن العقول الذكية قد تجتاز الاختبارات، لكن العقول المفكرة تغيّر وجه التاريخ». وهذا (كلام كبير) كما يقال، لا يمنع البعض المهتم من الشعور بالغضب. فعلى سبيل المثال لا التحديد، هنالك شخصان هما ألبرت أينشتاين وستيفن هوكنغ جمعا بين الذكاء الخارق والقدرة على التأمل العميق. هؤلاء قادوا البشرية بخطى واسعة؛ لأنهم (مفكرون) قبل أن يكونوا (أذكياء).
إثراءً للمقاربة.. تأملات ونماذج
وثمة شخصيات عالمية اتصفت بالذكاء والتفكير، غير ما ذكرناهما فيما سلف من القول. أحدهم ستيف جوبز، الجامع بين الابتكار الفوري (ذكاء التنفيذ) والرؤية طويلة الأمد (أي التفكير الإستراتيجي). إن نجاح ستيف -ولد لأم أمريكية وأب سوري- لم يكن بسبب حلول لحظية فقط، بل لرؤيته الفلسفية حول التقنية العالية وآفاقها ودورها في الحياة.
كما كانت تجسد ماري كوري تفكيراً تأملياً غيّر به فهم العالم للإشعاع، فقد كانت تدرس الظواهر بروية وعمق، لتحدث ثورة في العلوم.
ابن سينا لم يكن فقط ذكياً في الطب والفلسفة، بل جمع بين دقة الملاحظة والتفكير التحليلي، ما جعل إنتاجه العلمي مؤثراً وممتداً لعصور طويلة.
ابن خلدون أنشأ علم الاجتماع عبر رؤية نقدية للظواهر السياسية والاجتماعية، وليس بمجرد ذكاء إجرائي أو تكرار للمألوف. وللعلم، فإنه لم تُوجَد لحد هذه اللحظة نظرية عربية متكاملة لعلم الاجتماع بعد ابن خلدون، وهو أمر مؤسف للغاية.
هنالك من يُعتبر ذكياً فقط، مثل مخترع لحل سريع أو بارع في الحساب. وقد يتقلّد مناصب أو يحقق نجاحات آنية، لكنه من دون بعد نظر أو تفكّر قد يكرر الأخطاء أو يفوّت عليه حلاً جذرياً للمشكلات. في مجال السياسة أو الإدارة كثيراً ما نرى أناساً بذكاء اجتماعي أو سرعة حل مشكلات جزئية، إلا أن القادة الحقيقيين هم من يتمتعون بصفة (المفكر) القادر على الاستبصار والبناء بعيد المدى.
مقطع القول
إن التفكير النقدي أعمق وأشمل، ويمكّن الذكاء من أن يكون ذا أثر مستدام ومفيد. كذلك، فإن لكل مجتمع حاجته إلى الاثنين معاً، ولكن إذا اضطر المرء للاختيار، فقيمة (المفكر) أكثر فائدة على المدى الطويل؛ لأن الذكاء دون تفكير قد يتحول إلى حيلة سرعان ما تزول، بينما الفكر الدقيق يصنع حضارة.
إن المعلم الذكي، على سبيل المثال، قد يجد طرقاً مبتكرة لشرح درس صعب، أما المعلم المفكر فيعيد النظر في طرق التدريس نفسها ليغير العملية التعليمية برمتها. كما رائد الأعمال الذكي الذي قد يستغل فرصة سريعة في السوق، بينما رائد الأعمال المفكر يسعى لبناء نموذج عمل يصمد في السوق ويزدهر مستقبلاً.
إن الذكاء مفيد للحظات المفصلية، أما التفكير النقدي فهو أساس القرارات التي تغيّر المصائر وتبني الأثر العميق. لذلك، فإن المجتمعات الناجحة توازن بين الذكاء العملي والفكر التحليلي، لتحقق بذلك التقدم والريادة.


ذو صلة