حدث جلل، أقرب لكارثة فكرية، لكنه لا يُدرج في قوائم الكوارث العالمية، ولا تتداوله نشرات الأخبار، لأنه ببساطة لا يُرى بالعين المجردة..
ولا حتى بتلسكوب جيمس ويب!
ذلك أن الكارثة هذه المرة تسكن في الجيب، تتحرك معنا، ونحملها طواعية كالتمائم، بل نحني رؤوسنا لها كما يُنحنى الرأس للملوك. حدثٌ مكرر كل يوم، كل لحظة، وكل ثانية. أنت تفتحه لترد على رسالة عاجلة في واتساب، فإذا بك تغرق في سبع مجموعات وجدل بيزنطي بين فريق (الأزرق أجمل) وفريق (الأسود أشيك)، حتى إذا رفعت عينيك وجدت أنك نسيت ماذا كنت تفعل أصلاً. كلنا صرعى هذا المستطيل الأزرق. نعم، تويتر، فيسبوك، واتساب، إنستجرام، تيك توك.. وغيرها من أصنامنا في العصر الرقمي التي نهيم بها حباً، بينما تسحب من عقولنا خلسة آخر ما تبقى من التركيز، وتسحقنا بضوضاء لا تنتهي.
بالأمس أخذت أطراف الحديث مع معلم فيزياء، كان يمضغ الوقت في جدال (برامج التواصل)، فيما العالم يحتفل باكتشاف دواء جديد، وانتصار لمسبار في عوالم لم تطأها قدم بشر، قلت له: يا فلان، ماهي آخر الأخبار العلمية أو الفيزيائية المعاصرة؟ الانفجار الشمسي الأخير؟ أو مشروع الذكاء الاصطناعي الذي تعلم الكتابة وحده؟ عن الروبوت الذي يُجري جراحة دقيقة دون تدخل بشري؟ فرد عليّ: (إيه.. لحظة، خلني أرد على الريتويت، ثم احكي لك... ثم قال أي انفجار شمسي هل سيقضي علينا كضربة قاضية أو بعضنا؟).. أكيد الذي ضبط كورونا الأصلي الصيني مع أن الصين ليس فيها أصلي.. هو الذي وراء الموضوع! يااااا جنون الزحام الرقمي!
تخيل أن مقطعاً عن كلب يرقص بالرداء الشعبي يجمع مليون مشاهدة في يوم، بينما فيديو وثائقي عن الحضارة الآشورية يكتفي بخمسمئة، معظمهم نقروا عليه بالخطأ وهربوا قبل الدقيقة الأولى!
يا سادة، نحن نعيش فوضى صوتية رقمية تجعلنا نسمع كل شيء، إلا أنفسنا. لا نكاد نقرأ إلا ما يُختصر في شريط، ونفهم ما يُعرض في خمس عشرة ثانية، فإن زادت المدة قلّ الانتباه، وتثاءب الدماغ.
لكن لنبدد اليأس ومقولة (اغسل يدك)، فلو أردنا نجاتنا من هذه العاصفة، علينا أن نروض التقنية، لا أن نستسلم لها. أن نستثمر هذه المنصات لبث الوعي، لا التوافه. أن نعيد الاعتبار للعلم والمعرفة، لا أن نحيله مزحة في خضم التحديات.
وفي الختام:
الفرق بين عالم يتابع فيسبوك، وعالم يتابع العلم، هو الفرق بين من يسرّح شعره عند المرآة، ومن ينظر بعينٍ لجودة المرآة.
فهل نكتفي بالفلتر؟
أم نعيد تشغيل العقل على وضعية (المجهر)؟