في زمن كثرت فيه الأصوات وتعددت فيه الوجوه أصبح العثور على الموهوب الحقيقي أمراً يشبه البحث عن نجم خافت في سماء مكتظة بالأضواء الزائفة. نعيش في عالم يتوارى فيه أصحاب الموهبة خلف ستائر من الصمت، يختبئون بأناقة خلف فنهم كأنهم لا يرغبون بالظهور، لا لأنهم عاجزون، بل لأنهم أعمق من أن يبرزوا للعيون العابرة. هم أولئك الذين يصنعون عالماً خاصاً لا يُقاس بضجيج الإنجازات ولا يُقرأ على صفحات ما يطفو في السطح من الاهتمامات العابرة، بل يشعر به، يلهم، ويترك أثراً عابراً في الروح.
من خلال ملاحظتي واطلاعي على بعض الأعمال الأدبية، آمنت أن الموهوب الأصيل لا يسعى وراء الأضواء بل تلاحقه الأضواء دون أن يعبأ بها. يختار العزلة لا كرهاً بالعالم ولكن حبّاً بخياله. يفضل أن ينسج عالمه بهدوء دون أن تعبث به أيدي التوقعات أو تفسد هدوءه نظرات التقييم. هؤلاء لا يكتشفون إلا بعين تتأمل، قلب يشعر، ووجدان ممتلئ، لأنهم لا يبوحون إلا لمن يطرق أبواب الجمال بصمت واحترام.
والذي يكون مختلفاً عن الآخرين ولا يكرر أعمالهم ولا يستوحي أسلوب كاتب آخر متسق مع ذاته ومنسجم مع إبداعه، شخص فريد ورقم لا يتكرر يستميت في أن يقف خارج دائرة الضوء رغم أنه هو من يستحق أن يكون فيها أولئك الموهوبين الذين نلتقيهم أحياناً دون أن نعرفهم حق المعرفة لأنهم لا يظهرون في مقدمة المشهد بل في تفاصيله وفي عمقه.
أفهم تماماً لماذا يتوارون، لأنهم يخشون أن تكسر الضوضاء جمال نقائهم، أن يساء فهم هدوئهم، أو يقتحم عالمهم الذي شيدوه بقطع من أرواحهم. يخافون أن يتحول فنهم إلى منتج، وموهبتهم إلى سلعة وأحلامهم إلى عروض مؤقتة.
لكن ثمة أمراً مهماً لا يجب أن نتركهم وحدهم في عزلاتهم. علينا نحن العابرين في دروب الكتابة أن نمد لهم جسور الأمان، أن نوصل إليهم رسائل خفية مفادها: أنتم لستم وحدكم، أنتم الملاذ. علينا أن نشعرهم أن هذا العالم بكل رتابته لا يمكن أن يُحتمل دون لمساتهم، أن حضورهم ليس ترفاً، بل ضرورة. أن كل لحن يعزفونه كل لوحة يرسمونها كل كلمة يخطّونها، تزرع فينا حياة لا يُدركها إلا من تذوق العادية حتى شعر بالاختناق منها.
لصناع الجمال حق علينا أن نبحث عنهم، نحتضنهم ونُشعرهم أنهم ينقذون أرواحنا من الغرق في التكرار، هم لا يطلبون التصفيق، بل من يشعر حقاً بما يفعلون الموهبة الحقيقية لا تُعلن عن نفسها، بل تُكتشف. ولا تفرض وجودها، بل تُستدعى بالحب وبالفهم، وبالامتنان.
فإن رأيت فناناً صامتاً، كاتباً يتلعثم في حضرة الناس، رساماً يبتسم حين يتحدث عن لوحته أكثر من حديثه عن نفسه، فاقترب لأنك على وشك أن تلتقي بجمال نادر، روح تحمل نوراً خفياً، وموهبة تستحق أن تُصان، وتُكرّم، وتُحب.