مجلة شهرية - العدد (589)  | أكتوبر 2025 م- ربيع الثاني 1447 هـ

بيان مبكر في الدفاع عن الحرية الفكرية.. رسالة ابن قتيبة للمتزمتين

يخيل لكثير من القراء والمثقفين المعاصرين أن مصنفات التراث العربي والإسلامي هي عبارة عن قوالب رتيبة جامدة، محكومة بشروط دينية صارمة، ومعايير أخلاقية مثالية، وأنها تعيش في عالم مختلف، تنتمي لحالة دينية، ومنطقها يقوم في مجمله على السجال العقائدي، والتمايز المذهبي، والحكم الأخلاقي، وأنها لا تتسم بتلك الحيوية والرحابة الفكرية التي تتميز بها المؤلفات المعاصرة، لكن الحقيقة أن واقع التراث العربي ومصنفاته قد تكون أبعد عن هذه التصورات المبسطة الشائعة، وأن مستوى الحرية الفكرية والتنوع الثقافي، بل التحرر والانفتاح، وربما التهتك والمجون حد الخلاعة، والقدرة العجيبة على طرح أصعب المواضيع وأكثرها جرأة دون خوف أو وجل، أو رقيب أو حسيب، يكاد يكون أكثر ما يميز هذا التراث المتنوع بألوانه ومدارسه واتجاهاته المختلفة، وليس ذلك حكراً على الأدباء والفلاسفة والشعراء، بل سمة نجدها عند طوائف واسعة من الفقهاء والمحدثين والقضاة، لدرجة بلغ الحال بأحد أشهر أعلام الفقهاء المحدثين أن كتب بياناً ضد المتزمتين المنغلقين، دافع فيه بقوة عن الحرية الفكرية والأدبية، وكسر القيود أمام حركة التأليف والتدوين، كما يتجلى لنا ذلك في أحد أقدم الموسوعات الأدبية العربية، كتاب (عيون الأخبار) لمؤلفه الإمام ابن قتيبة الدينوري، أحد أعلام القرن الثالث الهجري.. فماهي قصة هذا الكتاب؟ وما هو البيان الذي افتتح فيه المؤلف مقدمته مدافعاً عن حرية التعبير أمام المتزمتين؟
عصر التنوع الفكري
إذا انتقلنا إلى عصر ابن قتيبة - وهو ما يمكن تسميته بالعصر العباسي الثاني - وجدنا أنفسنا في قلب مرحلة تاريخية حافلة بالتنوع والتدفّق الثقافي شهدت انفجاراً معرفياً بمعنى الكلمة؛ مدارس فكرية متعددة، تيارات دينية ومذهبية متباينة، حركة ترجمة واسعة للعلوم والفلسفات، ونشاط أدبي غير مسبوق. ازدهرت مجالس العلم على اختلاف فنونها؛ حلقات الفقه والحديث جنباً إلى جنب مع حلقات اللغة والأدب، يتناقش المتكلّمون في مسائل العقيدة والفلسفة، ويتجادل أهل الحديث في صحة الروايات ومعانيها، وظهر الفلاسفة الأوائل كالكندي، والشعراء والأدباء من أمثال الجاحظ وابن المعتز. إنه عصر التنوّع الفكري الخلّاق، فإلى جانب رسوخ المذاهب السنية ومدارس الفقه الأربع، استمر تأثير الفكر المعتزلي العقلي، وبرزت بدايات التصوّف، واحتدمت الخصومات الأدبية بين أنصار القديم والمُحدَث. هذه الحيوية الفكرية تدل على انفتاح البيئة الثقافية آنذاك، وتكشف عن تفاعل حضاري تلاقت فيه ثقافات العرب مع الفكر الفارسي والهندي واليوناني.
في ذلك المناخ ولد ونشأ أبو محمد عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (213هـ - 276هـ)، الرجل الذي يمكن وصفه بأنه شخصية موسوعية فذّة. لا يكاد المرء يذكر ابن قتيبة إلا ويقرن اسمه بصفة الجمع بين علوم الشريعة وعلوم اللغة والأدب. فقد كان فقيهاً ومحدّثاً ضليعاً، تتلمذ على كبار أئمة الحديث في زمانه حتى عدّه ابن تيمية (حُجّة الأدب) في نصرة أهل الحديث. وفي الوقت ذاته كان أديباً ولغوياً مطبوعاً، تشهد مؤلفاته على سعة اطلاعه وبراعته في ميادين البيان العربي. جمع ابن قتيبة في تكوينه العلمي بين الأخذ بالنقل المتمثل في نصوص القرآن والحديث، وبين إلمامه بعلم الكلام وأساليب الجدل العقلي، فقد ارتاد مجالس المتكلّمين في شبابه وأفاده ذلك في مقارعة الحجة بالحجة، كما أحاط بتاريخ العرب وأيامهم وأنسابهم وأشعارهم. فهو (أديب الفقهاء ومُحدّث الأدباء)، إذ كان مرآة ثقافة عصره المتنوعة. إن نظرة سريعة إلى قائمة مؤلفاته تؤكد لنا هذه الموسوعية: فقد ألّف في تفسير القرآن (تأويل مشكل القرآن، وغريب القرآن)، وفي شرح الحديث والدفاع عنه (تأويل مختلف الحديث، وغريب الحديث)، ووضع كتباً في الفقه (الأشربة وذكر اختلاف الناس فيها)، كما ألّف في التاريخ العام (المعارف) والأدب والنقد (عيون الأخبار، والشعر والشعراء). هكذا نرى ابن قتيبة عالماً موسوعياً يتنقّل بين المنقول والمعقول دون حرج، في زمن تنوعت فيه المعارف وتعددت المدارس.
لقد تميّز ابن قتيبة بمزاج فكري معتدل جعل منه شخصية فريدة تقف على تقاطع التيارات الفكرية في عصره. يميل إلى الاعتدال في جلّ آرائه ومذاهبه. وهذا يعني أن ابن قتيبة لم يكن أسيراً للتعصّب الذي طبع بعض أقرانه من أهل الحديث، ولا واقعاً في شطط غلاة المعتزلة في تمجيد العقل على حساب النص. لقد وازن بين العقل والنقل في منهجه الفكري؛ فهو سنّي المعتقد يدافع عن نصوص الشرع وصحّة الحديث النبوي في وجه التأويلات البعيدة، ولكنه في الوقت نفسه مطلع على ثقافة عصره العقلية ومستلهم لبعض أدواتها. فابن قتيبة ابن عصره المفتوح على النقاش، لم يتقوقع في مدرسة واحدة، بل أخذ من كل علم بطرف، وخاطب الجميع بلغة معتدلة تجمع بين حجة الشرع ومنطق العقل.
عيون الأخبار.. عُدّة المثقف
يُعدّ كتاب (عيون الأخبار) من أشهر مؤلفات ابن قتيبة، وهو كتاب أدب جامع تتجلّى فيه رؤيته الموسوعية. أراد ابن قتيبة بهذا الكتاب أن يوفر للقارئ وبخاصّة الكاتب (أو صاحب المنصب الذي يحتاج إلى ثقافة واسعة) مادة معرفية وثقافية غزيرة في شتى أبواب الحياة والمعرفة. وقد جاء الكتاب أشبه بموسوعة مرتبة وفق الموضوعات، تجمع بين طياتها الآيات والأحاديث والأخبار والأشعار والأمثال والحكم من مختلف الأمم.
قسَّم ابن قتيبة كتابه عيون الأخبار إلى عشرة كتب تمثّل تنوع اهتماماته وشمول رؤيته للحياة والثقافة. تناول في كتاب السلطان قضايا الحكم والسياسة وآداب الملوك، وفي الحرب عرض لفنون القتال وشجاعة الفرسان وحيل الحروب، بينما خصّ السؤدد بالكلام عن السيادة والشرف وأخلاق الكبار. وتوسّع في الطبائع والأخلاق في تحليل طبائع الناس وسلوكياتهم، ثم أفرد كتاباً للعلم في فضله وطلبه، والزهد لأقوال النُسّاك والعُبّاد، والإخوان لحقوق الصداقة والإخاء، والحوائج في قضاء المعروف والإحسان، والطعام في آدابه ومجالسه وقضايا الكرم والبخل، وختم بالنساء حيث تناول أخبارهن وأخلاقهن ونوادرهن. هذا التنوّع يعكس نظرة موسوعية متكاملة تجمع بين جدّ السياسة ورقّة الأدب وعمق الحكمة.
ومن هذا العرض تتضح طبيعة الكتاب؛ فهو ينتقل بالقارئ من بلاط السلطان إلى ساحات المعركة، ومن مجالس العلم إلى صوامع الزهاد، ومن مائدة الطعام إلى عالم النساء، عارضاً طائفة غنية من الأخبار والنوادر والأشعار في كل مجال.
رتّب ابن قتيبة مادته ترتيباً منهجياً؛ فكل كتاب (قسم) يحتوي أبواباً تندرج تحت موضوعه العام. واللافت أنه يستهل الكثير من الأبواب بآية من القرآن أو حديث شريف أو حكمة عربية، ثم يتبعها بأشعار وأقوال وحكايات، مما يجعل أسلوبه مزيجاً من الحكمة والتسلية.
لقد تجلّى انفتاح ابن قتيبة المعرفي في موقفه من تلقي العلم، إذ لم يكن أسيراً لمصدر واحد أو مرجعية مغلقة، بل كان يرى أن الحكمة ضالة المؤمن، يأخذها حيث وجدها. وقد صرّح في مقدمة عيون الأخبار بمصادر كتابه، قائلاً إنه انتقى مادته مما سمعه من الشيوخ، وما أخذه عن جلسائه وأقرانه، وما وجده في كتب العجم وسيرهم، وبلاغات الكتّاب ورسائلهم. لم يتحرّج من الأخذ عن كبير أو صغير، ولا عن جليل أو وضيع، بل قال: (واعلم أنا لم نزل نتلقّط هذه الأحاديث في الحداثة والاكتهال، عمن هو فوقنا في السن والمعرفة، وعن جلسائنا وإخواننا، ومن كتب الأعاجم وسِيَرهم، وبلاغات الكُتّاب في فصول من كتبهم، وعمن هو دوننا، غيرَ مستنكفين أن نأخذ عن الحديث سنّاً لحداثته، ولا عن الصغير قدراً لخَسَاسَته، ولا عن الأمة الوَكْعَاء لجهلها، فضلاً عن غيرها، فإن العلم ضالة المؤمن، من حيث أخذه نفعه. ولن يُزري بالحق أن تسمعه من المشركين، ولا بالنصيحة أن تستنبط من الكاشحين. ولا تُضير الحَسناءَ أطمارُها، ولا بناتِ الأصدافِ أصدافُها، ولا الذهبَ الإبريزَ مَخرجه من الكبّاء. ومن ترك أخذ الحَسَن من موضعه أضاع الفُرصة، والفُرص تمرّ مرَّ السحاب).
وقد جسّد هذا المبدأ فعلياً في متنه، فنجده ينقل عن المسيح عليه السلام قوله: (إذا اتخذكم الناس رؤوساً، فكونوا أذناباً.)، ويستشهد بأقوال ملوك الفرس وحكمائهم كأنوشروان وأردشير، ويستعرض نصوصاً من كليلة ودمنة، وينسب لوهب بن منبه أقوالاً من التوراة والإنجيل، ويذكر أدعية منسوبة إلى داود ويوسف والمسيح عليهم السلام، وينقل عن الرهبان، كما ينقل عن العرب والمسلمين والزهاد، جامعاً بين ما رواه المحدّثون، وما أثبته الفلاسفة والأدباء، وما دوّنه أهل الكتاب.
وهكذا قدّم (عيون الأخبار) صورة واضحة عن ثقافة القرن الثالث الهجري بجوانبها المتكاملة: جدّها وهزلها، دينها ودنياها. ولا غرابة أن عُدَّ هذا الكتاب من أمهات كتب الأدب العربي؛ فقد أثنى عليه ابن خلدون وعدّه أحد الأركان الأربعة لفن الأدب. إنه موسوعة أدبية أخلاقية أراد بها ابن قتيبة أن تكون زاداً ثقافياً لكل مثقف وكاتب، تزوّده بحكمة الشرع وخبرة الدنيا معاً.
دفاع عن الحرية الفكرية
اقتفى ابن قتيبة أثر قرينه ومنافسه الجاحظ في تخفيف وطأة الجدّ بما يبهج النفس ويبهت الملل، فأودع كتابه نُتفاً من النوادر، ولمعات من الظرف، قائلاً: (ولم أخله مع ذلك من نادرة طريفة، وفطنة لطيفة، وكلمة معجبة، وأخرى مضحكة، لأروح بذلك عن القارئ من كدّ الجد، وإتعاب الحق؛ فإن الأذن مجاجة، وللنفس حَمْضَة). لكن ابن قتيبة، كان يُدرك تماماً أن هذا المزج بين الجد والهزل قد يُثير سخط المتزمتين المتشددين في زمنه، ويعرّضه للانتقاد ممن يرون في الأدب وقاراً لا يليق به المزاح. ومن هنا جاءت مقدمته لكتاب (عيون الأخبار) بمثابة رسالة ضمنية لهؤلاء، يوضح فيها رؤيته للثقافة، وموقفه من التزمت، وحدوده في الاختيار.
وجه ابن قتيبة رسالة نقدية عميقة إلى فئتين من القراء في عصره: أولئك الذين قد ينكرون عليه جمعه بين الجد والهزل، وبين الموعظة والنادرة؛ سواء كانوا من غُلاة المتكلمين الذين لا يعجبهم إلا الجدل العقلي الجاف، أو من جُفاة المحدّثين الذين لا يرون نفعاً في أي حديث أو أدب لا يتصل مباشرةً بالكتاب والسنة.
جاءت لهجة ابن قتيبة في المقدمة صريحة وقوية في الدفاع عن حرية الرأي وتنوّع الأذواق، فهو يواجه المعترض المتزمت بقوله الواضح: (فإذا مرّ بك - أيها المتزمت - حديثٌ تستخفّه أو تستحسنه أو تُعجَب منه أو تضحك له، فاعرف المذهب فيه وما أردنا به)، بهذا الخطاب المباشر يطلب من القارئ المتشدّد التروّي وفهم المقصد قبل إطلاق الحكم. ويكمل ابن قتيبة رسالته بلهجة الواثق، مبيناً أن الكتاب موجّه لفئة واسعة متنوعة من الناس، وليس حكراً على أهل الزهد والتقشف: (واعلم أنك إن كنت مستغنياً عنه بتنسّكك، فإن غيرك ممّن يترخّص فيما تشدّدتَ فيه محتاجٌ إليه. وإن الكتاب لم يُعمل لك دون غيرك.. ولو وقع فيه توقّي المتزمتين لذهب شطر بهائه وشطر مائه). ما أجرأه من دفاع عن حق الاختلاف في التذوّق والتفكير! يقرر ابن قتيبة أن إرضاء المتزمت الواحد بإقصاء كل ما لا يوافق هواه سيعني إفقار الكتاب وخسارة نصف جماله وروائه، ونفور القرّاء الآخرين منه. ثم يضرب لهم مثلاً بليغاً فيقول: (وإنما مثل هذا الكتاب مثل المائدة، تختلف فيها مذاقاتُ الطعوم لاختلاف شهوات الآكلين)، كذلك كتابه قد حوى ألوان المعارف: جدٌّ وهزل، دينٌ ودنيا، رضيعُ لبان وفطيم. لكل قارئ نصيب في عيون الأخبار، وما على المتزمّت إلا أن يدع ما لا يستسيغه إلى غيره ممن يستطعمه ويستحسنه.
ولم يفت ابن قتيبة أن يبرر إيراد بعض القصص الجريئة أو الألفاظ الحساسة، فبيّن أنها حقائق في الواقع الإنساني، وأن ذكرها للعبرة وضرب المثل لا يُعدُّ خروجاً على الدين أو الأخلاق، إذ يقول في المقدمة نفسها إن المزاح والظرف إذا جاء في موضعه وبقدر فهو ليس قبيحاً ولا منكراً.
هكذا دافع ابن قتيبة عن حرية التنوع الفكري داخل الإطار الحضاري الإسلامي، رافضاً وصاية فئة واحدة على الذوق العام أو المعرفة المعتبرة. ونحن حين نطالع مقدمة ابن قتيبة تلك التي خطها قبل أكثر من ألف عام، نجدها وثيقة تحمل روحاً معاصرة تكاد تخاطب واقعنا اليوم. فالمتزمتون لم ينقرضوا؛ لكل عصر متزمتوه الذين يضيقون ذرعاً بأي خروج عن نمط تفكيرهم أو ذوقهم.
رسالة ابن قتيبة للمتزمتين تؤكد قيمة الانفتاح والتعدد الثقافي في تراثنا نفسه؛ فالتراث الذي جمع بين آيات التنزيل، وأشعار العرب، وحِكَم الفرس ومقولات الرهبان لا يمكن أن يكون تراث انغلاق وجمود، بل تراث تفاعل وانفتاح.
يدعونا ابن قتيبة إلى أن نقرأ تراثنا بعقل منفتح لا يخشى الاختلاف، وبذوق عادل ينصف الجميل وإن خالف هواه، ويستحسن النافع وإن جاء من غير مألوفه، وفي ذلك إحياء لمعنى أصيل في ثقافتنا، أن الاختلاف في الرأي ثراء لا خطر، وأن التراث بحر متعدد الأعماق يستحيل حبسه في إناء ضيق.

ذو صلة