يعرف الفارابي الشعر والأقاويل الشعرية بأنها هي التي من شأنها أن تؤلف من أشياء محاكية للأمر الذي فيه القول، أو أنها هي التي توقع في ذهن السامعين المحاكي للشيء، إذ لا يميز هذان التعريفان الشعر بأنه محاكاة (أي يجعل القول دالاً على أمور تحاكي ذلك الشيء)، والمحاكاة في الشعر لا تكون في اللفظ أو في اللغة فقط، وإنما تكون من قبل ثلاثة أشياء، وهي: الكلام واللحن والوزن، فالشعر من جملة ما يخيل ويحاكى بأشياء ثلاثة هي:
1 - باللحن: الذي يتنغم به اللحن يؤثر في النفس تأثيراً لا يرتاب به، ولكل عرض لحن يليق به حسب جزالته.
2 - وبالكلام: نفسه إذا كان مخيلاً حاكياً.
3 - وبالوزن: فإن من الأوزان ما يطيش ومنها ما يوقر.
وتجد مفهوم المحاكاة ذاتها عند الفلاسفة من خلال تضمين الشعر في سياق المنطق، كما يرى الفارابي مفهوم المحاكاة بأنه العملية التي تعتمد على الاستخدام الخاص والمؤثر للغة، الذي يعتمد بدوره على التصوير والتمثيل والتخيل كما جاء عند الشاعر أبي الطيب المتنبي:
(ليس التكحل في العينين كالكحل)
(في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل)
وهذا المثال الشعري عند استخدامه نلاحظ اعتماده على التصوير، (التشبيه والاستعارة والكناية بصفة خاصة)، كما يتسع مفهوم المحاكاة، بحيث يشمل الصياغة الشعرية كلها مثل التشبيه والاستعارة وغيرها من الصياغات الحسية التي تعتمد على الإيماء والتأثير.
ونلاحظ ذلك بصورة واضحة من خلال الشعر الشعبي الذي يمثل تراث الأجيال، ويحفظ تاريخها من الزوال، ويوطد قيمها ومثالياتها من الاندثار، ويكون لها كما كان في ماضيها، لأن الشعر الشعبي هو الأدب المعبر عن مشاعر الشعب في لغة عامية أو فصحى، وهو يعبر عن وجدانه ويمثل تفكيره، ويعكس اتجاهاته ومستوياته الحضارية.
والمعروف أن الأدب الشعبي لا يأخذ صورة نهائية محدودة، إنما يضاف إليه وللأجيال المتعاقبة، وتحذف منه، وتعيد ترتيب عناصره، وتجري فيها بعض التغيرات ليلائم ذوقها ويعبر عنها، فاشتراط التوارث يكون ضرورياً، فالشاعر الشعبي من أميز المبدعين الشعبيين وظيفة، حيث يمثل حلقة وصل بين جميع فصائل المجتمع، فهو لسان حال عامة الناس، وله وظيفة اجتماعية ذات فاعلية في حركة المجتمع اليومية، كما أنه صاحب ذاكرة واعية وراصد لتاريخ الجماعة، كما أنه يقوم بوظيفة ثقافية، إذ منه يستمد العامة معلوماتهم بوصفه مصدراً من مصادر المعرفة في المجتمع، وأخيراً تبلورت له وظيفة سياسية لعلها أصبحت ذات شأن مع نمو الوعي السياسي، كما أن للشاعر وظيفة اجتماعية ناقدة لبعض المظاهر المرفوضة اجتماعياً أو ثقافياً بتسليط الضوء عليها، ولفت نظر المجتمع ليعمل على معالجتها، فالشعر بصفة خاصة هو نشاط فكري إنساني يقتضي بالضرورة وجود دوافع تثير حماس المبدع، وتعمل على تنشيط ذكائه فيثمر عملاً إبداعياً ذا اعتبار، كما أن الإبداع الشعري عطاء فكري إنساني يتبلور من انفعالات الذات المبدعة ومن الدوافع نحو الإبداع الشعري، ما يكون سببه مفروضاً على الشاعر من الآخرين، وذلك بطلب منهم أو بظروف اجتماعية أو ثقافية معينة، كما تتفق آراء الباحثين في أن التمكن من مفردات اللغة مؤهل مطلوب ضمن من يمارس إبداع الشعر، إلى جانب التمكن من المفردات والقدرة على استخدامها مجازاً في استعمال قواعد اللغة المعبر بها، مع إجادة الأساليب الشعرية والوسائل الجمالية، كعملية التكرار وإيراد الصور بأكثر من وجه. ويقسم بعض الدارسين المؤهلات إلى نوعين:
1 - مؤهلات شخصية كالاستعمال الشعري للغة وجمال الصوت والاستعداد الحسي، بالإضافة إلى سعة الخيال، مع العلم أن الدوافع النفسية هي من أقوى دوافع الشعر، وذلك لارتباط الشعر بالواقع النفسي للمبدع، ومثال ذلك قول الشاعر الشعبي في التغني بصفات وثقافة مجموعته من خلال بعض الأبيات للشاعر ود ضحوية:
أبوك يا الزينة عكاهن قبض في روسن
الهوج والشرق فوق العواتي يكوسن
سروجنا الغلبن صايح القماري حسوسن
نو العودة لي الغالي ورفيع ملبوسن
2 - مؤهلات خارج شخصية الشاعر: كالموروث التقليدي والمحيط البيئي للجماعة المعينة.
فالدوافع الخصوصية الشعبية تعتقد بأنها ذات ارتباط بواقع الحال الثقافي والاجتماعي الذي يحيط بالشاعر المعين في الحيز المحدود، كما أن تنوع المناسبات لأداء الشعر يساهم في إثراء وتنوع المادة الشعرية المبدعة، ويساعد الشاعر في تشكيل صوره وأخيلته الشعرية، وفي ذلك دافع قوي للرقي بمستوى العملية الإبداعية، وعلى ذلك فإن مناسبة الأداء تشكل أحد عناصر الإبداع كما يقول شاعر البطانة:
أرضنا لبست الثوب الحضاري متانا
عششت وأشبعت في الآخر الحنانا
واحدين حضروا السلوكة بين كريانا
واحدين ملصوا هدوموا وأندر جو يشقوا بطانا
حيث أشارت كثير من الدراسات إلى أن فهم الشعر في المجتمعات الشفاهية يحتم دراسة الشعراء في تلك الجماعات دراسة تفصيلية وحقيقية، لأن الشاعر هو مترجم أحاسيس المجموعة التي ينتمي إليها في مختلف مظاهر حياتها، فنجد أن الدافع على تقدير الشاعر وإجلاله على ذكائه ودوره الثقافي، فهو المجسد لثقافة الجماعة في شعره ومصور الجماعة لغوياً وتقليدياً من خلال ألوان البيئة، والحافظ لأمجادهم في إبداعه الشعري.
ودون شك فإن المجتمعات الشعبية التقليدية وخلال ممارستها الطويلة للحياة ومثابرتها الدؤوبة لتطويع البيئة من أجل الحياة صقلت شخصيات الأفراد حسب متطلبات حياتهم، لذا عمدت لغتها الشعرية لتعبر بها عن كل مواقفها في سبيل الوجود، ويظهر ذلك في شعرهم الشعبي كقول الشاعر ود نائل:
الموت يا أم هبج صقاروا تابع خيلك
إلا كريمة ما بجوعية دخيلك
رب العزة بي وابل المطر ساخيلك
السحا والمفيريط والصفاري نخيلك
كما نجد أيضاً قول شاعر البطانة مادحاً:
عرضو وفرضو لا من أفنى ما فكالن
مواعين الكرام تمتم عبا رن وكالن
خلواتو المثل صوت الجراد وعكالن
يكفيهن صوانيا بداع أشكالن
حيث يظهر الشاعر صفة الكرم الذي يعتبر صفة طبيعية متوارثة، كما نجد بعض النماذج المشابهة مثل قول شاعر البطانة إبراهيم سليمان في وصفه لأيام الجدب وذكره الإشارات والعلامات والظواهر الطبيعية وذكره لمنازل المطر قائلاً:
طالت أمضت فنقيلة بي ما بقيف
والنجامة حالونا الضراع والصيف
أنجلت البسا فروب العبايدة الريف
غنوم الدراهم يعملولن كيف
كما نجد صورة التواصل الثقافي من خلال بعض الألفاظ والكلمات والمعاني وذلك في شعر الهداي في محبوبته:
كن خبروني وأنطوني
المراد بجاور الناس البخات
بعيد الضحية ألفات أم دردر
في القطنة سوت مهانة فوق البنات
كن بقيتي أيد ببقي ليك غويشات
كن بقيتي رقبة ببقي ليك خناق
كن بقيتي خد ببقي ليك شليخات
وكن بقيتي عبلة ببقى أنا عنتر بن شداد
ومجاراة ومشابهة لهذه المعاني والكلمات والألفاظ نجد شاعر الشايقية حسونة يقول:
أنا أصلي ود ناس
وما بلم الناس الرخاس
الفريقن داجي يباس
وفقرهن مجلوط في اللباس
أنا متري مضروب زي الرصاص
وتمري حلق فوقوا الدباس
وفي القصيدة نفسها يقول:
لساني ما تقلب تروق
للحريفة التعرف الذوق
ست حلقة وتورا يسوق
وست جنينة تهجي وتسوق
ونلاحظ حفظ التراث الحضاري للكثير من الموروثات الشعبية التي استطاعت أن تحافظ على استمراريتها وديمومتها على امتداد الحضارات المتوالية في السودان منذ الحضارة النوبية والفرعونية وحضارة نبتة ومروي وحتى العصر الحديث.
مما يشير إلى التواصل والتلاقي بين هذه الحضارات، وقد جاء ذلك على لسان شعراء الشايقية في تداولهم لكثير من الكلمات والألفاظ القديمة مثل قول شاعرهم:
الجزيرة العاصر الشرق
يا العيك النيل مندلق
لا بجابق لا بورق
داي أحش من العرق
الجزيرة أم بحرا حما
الما بيعومك الناس تما
عل أنا أب روحا سايما
يا غرق يا جيت حازما
وهنا نلاحظ الكلمات النوبية المتداولة التي حافظت على وضعها في الثقافة الشعبية مثل كلمات (الجابيق- الوريق)، كما جاءت أيضاً بعض الكلمات النوبية التي استطاعت أن تتواصل عبر حضارات السودان المتباينة، وتحافظ على استمراريتها وديمومتها، وذلك في قول الشاعرة الشايقية:
تسلم لي تعيش يا طه يابزيد
يا فحل البل المديد بالقيد
يا الأرقوق ما بيشلنك كلاتيد
يا إدر ام سيوف الراقد الهيد
كم بتجر لي رجال وتجدع جبا بيد
شدول السخي البتوط في الفيل
وهنا تظهر الكلمات النوبية مثل (الأرقوق- والكلاتيد- الجبابيد)، كما يظهر من خلال الشعر الشعبي التدرج الحضاري في بعض المظاهر والسلوك والآليات، مما يوضح تأثير الشعر الشعبي بمجريات التطور الإنساني في كل الجوانب الحياتية، ومن ذلك مثال قول الشاعر الشعبي:
القمر بوبا عليك تقيل
يا فتيل ما يقوما الأصيل
الشلوخ درب الأصيل
والرقيبة تقول قزازة عصير
الزراق فوقه تقول حرير
فأدوات الزينة عند المرأة باتت تهتم وتتأثر بالتشبيهات والصور الأخرى من تطورات الحياة مما نتلمسه من جمال وتعبير في الذوق العام.
عليه فإن ألوان الشعر الشعبي تمثل الثقافة الشعبية بكل معانيها، وأشكال تواصلها الثقافي بين الحضارات، كما أنها اللغة الإعلامية السهلة لنقل كثير من الأنماط الثقافية بين المجموعات الحضارية في سلاسة لغوية تتبادل فيها أنواع المعرفة الإنسانية التي يمكن انتشارها وتداولها ثقافياً واجتماعياً، وتمثل إحدى السمات الحضارية للتطور والرقي للمجتمعات الحديثة بنقل هذه المعارف والخبرات عبر الأجيال المتعاقبة.