مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

إشكالات الهوية

aيمتاز المجتمع البشري بظواهر عدة ومنها أنه دائم التغيير والتحديث، ويقابل هذا التحديث والتغيير تباين في وجاهت النظر تجاه المحدث ما يجعله مثيراً للجدل، يتمحور هذا التوجس فيما ينطلي عليه هذا التغيير من تحولات على ما قد نطلق عليه بالعموم (بالهوية)، فيظهر ضمن هذا التغير صور وأشكال جديدة للممارسات الاجتماعية تنتج تمثيلات لأفراد المجتمع قد تختلف عما سبقها من الصور النمطية للصيرورات الاجتماعية أو قد لا تتطابق مع الكيف المتصور لما نحن عليه في النسق التاريخي لذواتنا، هذه التغييرات قد تنتج ثنائية من القبول ورفض قد تصل إلى أشكال متطرفة في الأنساق الاجتماعية تنتج شعارات كـ(الحفاظ على الهوية) أو (الأصالة الاجتماعية) وغيرها، فتصبح هذه الأطر التاريخية للأشكال الثقافية في المجال الاجتماعي هي القيمة الأخلاقية الضابطة للتغيير.
في هذه السياقات، يتسع استخدام كلمة (الهوية) فقد نجدها جمعاً كما في (هويات كبرى وصغرى)، وأحياناً حتمية كما في (هويتنا الحقيقية والإسلامية والعربية.. وغيرها)، وفي بعض الأحيان مذمومة لدى البعض كما في (هويتنا القبلية). فما يُصطلح عليه (بالهوية) هي كلمة ذات أبعاد ودلالات متباينة قد أتخمت بمعان جدلية تحوي في طياتها الكثير، إذ يُعدّ سؤال الهوية واحداً من أكثر المواضيع حساسية على كافة الأصعدة السياسية والأكاديمية، ولطالما هذا السؤال استحث الأيديولوجيات السياسية والمباحث الأكاديمية في الخوض في جدليات مؤدلجة دوماً، مع وَسْمها بالعلمية والموضوعية، ولعل جذور هذا المبحث ضبابية بعض الشيء، ولا يمكن بشكل مباشر الربط بين السؤال ببُعْده المعرفي المباشر كطرح المتأخرين في العلوم الإنسانية والاجتماعية أو مباحث المتقدمين في سعيهم لفهم الطبائع البشرية، أو بين السؤال ببُعْده الأيديولوجي والسياسي، وما ينتج عنه من وضع محددات لما هو مماثل وينتمي لمجموعة ما، وما هو مختلف وينتمي لأخرى، بين هذين البعدين تولد أنماط ثقافية مختلفة، هي بدورها متعدية تعيد إنتاج مسألة الهوية.
في هذا المقال سأحاول أن أناقش مفهوم الهوية وإشكالاتها، محاولاً إيضاح التطور التاريخي للمصطلح، وكيف تحوَّل من أداة للفهم في الإطار الأكاديمي إلى سلاح أيديولوجي ملاصق للإنسان في إطاره الثقافي. أثناء هذا العرض سأحاول أن أوضح التطورات التاريخية لمباحث الهوية.
الجذر التاريخي
لعل الباحثين في مجال الهوية اعتادوا المقدمة الدارجة في الكتب والمقالات التي تحاول طرح العرض التاريخي لتطور مسألة الهوية وتعريفها اصطلاحاً بأنها نابعة من الجذر اللاتيني (Dem)، والذي يعني المماثل أو المقابل، ويؤصل كثير من الباحثين التطور التاريخي لمبحث الهوية للفترة الهليانية في العصر اليوناني، إذ برزت لدى الباحثين الأوائل في اليونان أسئلة تتمحور حول الدور الذي يلعبه الأفراد، ومدى أهمية التشابه والتماثل بينهم ضمن المشروع الاجتماعي، والعجيب أنه في تلك الفترة برزت قيمة التماثل بين الأفراد ضمن ما يُعرف بقانون أرسطو الذي جدلاً يؤكد أن التساوي بين الأفراد في المجتمع يعني بالضرورة التماثل بينهم في الصفات، انطلاقاً من هذا القانون تمحور مفهوم الهوية ضمن جدلية التماثل والاختلاف بين المجموعات البشرية، والتي خلقت شكلاً من أشكال التشكيل الكلي للمجتمعات لتعريفها ضمن ثنائيات المثل وضده، بهدف تحديد جماعة ما. وفي نفس الإطار، وربما في نفس الفترة أيضاً برز مبحث مواز لمفهوم dem لدى اليونانيين ولنفس الفيلسوف، ولكن في محاولة لتفسير الهوية ببُعْدها النفسي، فقد جادل أرسطو بأن المكون الداخلي، أو الأنا (Ego) للذات البشرية هي الحالة الدفينة من الرغبة (Desire) والتي يغالبها المنطق (Reason) وكلما طوعت الرغبة للمنطق علت عليها القيم الفضيلة.
لعلي من هنا أنتقل إلى العصر الإسلامي، وخصوصاً مع بروز مفهوم التجلي الذي اختير لترجمة (Dem) بشكل مقارب اصطلاحاً أكثر للـ(Ego)، فقد احتد النقاش حوله في فترة التدوين كما يسميها الجابري، وهنا يجادل البعض أن الثقافة الإسلامية عرفت الهوية في إطار مختلف، فقد درج بعض المترجمين الأوائل للنصوص اليونانية على استجلاب مفهوم مختلف للهوية ركز فيه الفلاسفة المسلمون على الذات لا في بعدها الاجتماعي فحسب، بل في بعدها النفسي الداخلي بصورة توازي الأنا (Ego) أكثر من التماثل بالمفهوم اليوناني للـ (Identity)، لذلك نجد لدى العرب والمسلمين الأوائل مصطلحات كالهوية من مصدر هو أو التجلي بشكل يرتبط أكثر ببروز الفرد كحالة ظواهرية مركزها الفاعل في المحيط الاجتماعي.
الهوية وبروز مصطلح سياسات الهوية (Identity Politics)
تعد الماركسية العلمية واحدة من أبرز الحركات المعرفية وأكثرها إثارة للجدل في القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين، ولهذا الحراك المعرفي الواسع أثر كبير على الهوية كمنهج معرفي في الحقول العلمية. ولعل هذا يبرز مركزية مفهوم سياسات الهوية التي حاول ماركس وأتباعه من خلالها فهم ديناميكية التاريخ من خلال تعريفه على أنه تشكل من خلال حالة الصراع الطبقي بين أفراد المجتمع، فتاريخياً بالنسبة لماركس لطالما هنالك فئوية تحددها النماذج المسيطرة على علاقات الإنتاج، وهذه الفئوية احتدمت وحشيتها في عصر الثورة الصناعية مع البروز الواضح لطبقة الرأسماليين، فيقرأ ماركس وأتباعه هذه الحالة على أنها حالة صراع بين طبقتين، وهما البرجوازيون المسيطرون على علاقات الإنتاج (Relations of Production)( 1)، والبروليتاريا وهم الفئة العمالية التي تشكل المادة الحقيقية لأشكال الإنتاج (Modes of Productions). ويرى ماركس أن هذه الهيمنة التاريخية تشكل المشكلة الحقيقية ورأى تدني العدالة وغلبة اللامساواة في فترة العصر الصناعي، وبأن هذه الهيمنة شكلت صيرورات قعدت الهويات الاجتماعية، وبهذا يكون البروز الأول لموضوع سياسات الهوية كمبحث منفصل بذاته تسعى الحركة الماركسية لمناهضته ضمن مشروعها السياسي الذي في الحقيقة أنتج حالة أكثر تعقيداً من سياسات الهوية أحدثت أشكالاً أخرى من الإقصاء والفئوية. ودون الخوض في إشكالات الماركسية واختزالاتها لمعنى التاريخ على كونه حالة محددة من الصراع المادي ضمن علاقات الإنتاج في المجتمعات الصناعية، إلا أنها أحدثت ثورة في مجال فهم الهوية، وتبعها مسعى واضح للفصل بين الهوية كمبحث في العلوم الاجتماعية وسياسات الهوية المشبعة بالأيديولوجيات السياسية.
الهوية وما بعدها
أصبح مشروع الهوية متعدياً لمفهوم سياسات الهوية، وأصبح يصبو إلى أن يكون سؤالاً عن التجليات للماهيات الاجتماعية، ومع بروز مفاهيم أكثر ديناميكية عن الثقافة والمجتمع أصبح تعريف الهوية أكثر ميوعة (Fluid Identity)، لا تفهم بهذا الإطار الأشياء على أنها ثابتة، بل إنها دائمة التحول ومتجددة الصيرورة أو كما تجادل الفيلسوفة جدث بولتر (الهوية حالة مستمرة من التشكل لذواتنا بلا نهاية تحدد أشكالها حالة خطابية تاريخية تسعى لتحويل الهوية من حالة متحولة إلى صور ثابتة). هذا الطرح أحدث تحولاً واسعاً في مبحث الهوية، وبدت الصور التاريخية عن الهوية متأرجحة، فلم تعد تحتمل معانيها التاريخية، هنا بدأت إشكالات الهوية أكثر جدلية، وقد تعدى مبحث الهوية مجال العلوم الإنسانية لتخوض غمار سبر معانيه العلوم الطبيعية، فنجد مثلاً علم الطب النفسي يتحدث عن حالة الاعتلال المصاحبة للاضطرابات النفسية والتي تقود إلى فقد الهوية، أو علم الأعصاب الإدراكية التي تحاول فهم الهوية من خلال الاعتلالات الصحية في الدماغ نتيجة مثلاً التجلطات أو الإصابات أو الجرحة، هنا تفهم الهوية على أنها خروج عن المألوف: إما عن فرد اعتاد سلوكاً ما أو عن سياقه التاريخي لما يجب أن يكون عليه. وهذا يعيدنا إلى نفس الدائرة وهي: هل الهوية ثابت مكتسب أم متحول تاريخي؟ وهل بالإمكان طرح سؤال عن الهوية مفرغ سياسياً؟


1 - يحمل مفهوم علاقات الإنتاج الكثير من المعاني لدى ماركس، فهو لا ينحصر على علاقات الإنتاج ببعده الاقتصادي، بل أيضاً يشمل النفسي والثقافي.

ذو صلة