مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

محمد الأمين جوب: تتجلى شاعرية الشاعر في نقد نصه

حاوره/ أحمد اللاوندي: مصر


الشاعر السنغالي محمد الأمين جوب، ولد بالعاصمة السنغالية داكار عام (1991م)، وهو واحد من الشعراء الأفذاذ القلائل الذين كتبوا بلغة غير لغتهم الأصلية، إنه يعتز بوطنه وبلغته الفرنسية إلى أبعد مدى، لكنه نبغ وتفوق وتميز في الكتابة باللغة العربية، ولِمَ لا؟! وقد تربى منذ طفولته في محرابها، فنهل من معينها الذي لا ينضب.
صدرت له ثلاث مجموعات شعرية هي (كأغنية لن تكتمل)، (ظل مؤقت لجسد مؤجل)، (ما تشظى من نشيد الكوخ). شارك في العديد من الأماسي والمهرجانات الشعرية العربية، ونال عدة جوائز رفيعة المستوى، وبمناسبة حصوله في شهر نوفمبر (2022م) على جائزة الأمير عبدالله الفيصل في الشعر العربي في موسمها الرابع كان لـ(المجلة العربية) معه هذا الحوار:

نود أن نتعرف على نشأتك وذكرياتك.. كيف كانت؟
- من الصعب الحديث عن البدايات والرجوع إلى الذاكرة الأولى، ومحاولة استكناه وتحديد الجغرافيات الطاعنة في القدم والنأي، ولعل الصعوبة في ذلك تعود إلى أن البدايات غالباً ما تكون بلا وعي واستعداد سابق، لكن ربما بداياتي مع الشعر كانت مبكرة جداً عندما كان الوالد يمارس فيَّ مهارة الكبار، حيث كان يلقنني بعض الحروف الهجائية العربية، ويعدني أني إذا ميزت بينها سيقدم لي هدية ثمينة، وكان يلقنني القرآن لأحفظه، قبل أن أميز بين الحروف، كنت لا أعرف ما هو الذي أحفظه، لكن من الطبيعي أنك عندما تعد الطفل بالحلوى والهدايا وبعض التشجيعات يستطيع أن يحفظ معك أي شيء.
في هذه الحالة، ابتدأت علاقتي مع العربية ولم أزل غصناً غضاً، وبعد مدة، وجدتني بين يدي جدي المربي الشيخ (سرين مورجوب) حفظه الله وجدتي (زينب سيسه) رحمها الله، بمدينة (سانلويس) العاصمة السابقة للسنغال، وبالضبط لما كان خالي وأستاذي (سرين جبريل جوب) يضع النقاط الأولى في حروف قلبي، ويعلمني كيفية التهجي بالكامل لمختلف الحروف والنطق الصحيح للكلمات بطريقتها الأنيقة، حتى استطعت التمييز وبدأت القراءة دون حاجة إلى مساعد في نهاية المطاف. بعد ذلك، حفظت القرآن كاملاً، وقمت بخطه مرتين بيدي في لوحة، في كل يوم نكتب جزءاً فيصحح الشيخ، فنمحو ونكتب جديداً كعادة المدارس العتيقة.
إذن فعلاقتي مع الشعر بدأت منذ انطلاق علاقتي مع القرآن في ذاك الزمن المبكر، فهذا الكتاب المقدس هو الذي أشعل فيَّ جذوة الانصياع إلى لغته، كنت أقرؤه يومياً، فاحتجت أن أضاعف الجهود من أجل فك شفرات هذه اللغة.
من كان له التأثير الكبير في إيقاظ موهبة الشعر لديك؟
- إنه أستاذي (فاضل أنجاي)، حيث ظل طيلة سنوات متعددة يلزمني أن أحفظ كل ما مر بي من شعر عربي رصين، فمثلاً في كل يوم لا يعطيني درساً جديداً إلا وقد حفظت الدرس السابق، فحفظت مقصورة ابن دريد والدالية ومختار الأدب والبردة، كما درست المقامات والألفية على يد خالي. من هنا، بدأت أحاول كتابة الشعر، وأتذكر أنه كان معي في نفس الجيل المترجم الحالي (محمود درامي) والشاعر (مصطفى كان) المقيم حالياً في إيطاليا. هذا الثالوث جمعتهم الزمالة وحب الشعر، فكان لكل واحد دفتره الخاص، إذ يخبئ فيه خربشاته ومحاولاته.
كنا نقترح موضوعاً وبحراً وقافية ثم ننطلق في الكتابة، وفي الليل نخصص وقتاً للمداولة والنقد الارتجالي، فيلقي كل منا ما يريده على الآخرين. فكأننا أسسنا حركة نقدية نحن نقادها وشعراؤها بذات الوقت. في هذا الجو، دخلتني الحماسة، وازدت تعلقاً وإتعاباً لذاتي من أجل الشعر.
دعنا نتوقف هنا، في عام (2012م) رحلتَ إلى المغرب. ماذا أضافت لك هذه الرحلة؟
- مجيئي إلى المغرب في تلك الفترة اختصر لي المسافة وطوى لي السنين، لقد جعلني بأقل جهد أستطيع الوصول إلى الهدف، خصوصاً وقد فتحت عيني على مجموعة من التجارب الشعرية المهمة، حيث قرأت لأكبر عدد ممكن من الشعراء بمختلف المدارس الأدبية، وأزعم أنني اطلعت على ما تيسر لي من شعر عربي وأجنبي، فكان له أثره البارز في تكويني، وفي نضجي الشعري.
أنت شاعر سنغالي، واللغة الرسمية هناك هي الفرنسية، إلا أنك نبغت في كتابة الشعر العربي، فأتقنت فنونه وأجدت قواعده ورتبت قوافيه، لدرجة أنك أدهشت حتى الناطقين بالعربية.. ما السر وراء هذا النبوغ؟
- ربما الأمر يعود إلى الإعداد العائلي، والجو العلمي الذي ولدت فيه بين أسرة عريقة، تحتفي بالعلم والمعرفة وتنداح في عشق اللغة العربية.
أصبحت لك قاعدة جماهيرية عريضة من عشاق لغة الضاد وقريضها، ونلت جوائز قيمة، آخرها جائزة الأمير عبدالله الفيصل في الشعر العربي.. حدثني عن طموحاتك في المستقبل وما الذي تخطط له؟
قد يحسن الجمهور الظن بنا، لكن هذه الثقة بما نكتب بمثابة تكليف لنسير نحو عوالم شعرية أكثر رحابة ودهشة وجمالاً. أما ما نخطط له مستقبلاً فنحن مع الشعر لا نخطط لأننا قرابين الجمال وتلاميذ الدهشة الكبرى، وأرجو أن تكون الأيام القادمة مليئة بالإنجازات المثمرة التي تستحق الخلود.
برأيك، أيهما يكتب الآخر الشاعر أم القصيدة؟
هذا السؤال يعود بنا نحو جدلية الشعر والشاعر، وأعتقد أن الشعراء الحقيقيين لا يكتبهم الشعر بل يكتوون بناره ويصطادونه رغم انفلاته وتمرده للقبض عليه، وإلا فما قيمة الشاعر الذي يكتبه الشعر؟ وما وظيفته؟ الشاعر هو الطائر المحكي كما عبر شيخنا المتنبي وليس الصدى، فكل الذين يدعون أن الشعر يكتبهم ما زالوا يعيشون في ذات الأوهام التي عاش فيها الفلاسفة القدامى، عندما أدانوا الفنانين والشعراء لأنهم في نظرهم لا يعتمدون على الطريقة البطيئة الواثقة، بل أقصى ما يفعلون أنهم يعتمدون على نشوة الوحي وشرفة الإلهام. قد يحسب الجمهور أن الشعراء لا يملكون السيطرة على ما يقولون بسبب (الوحي والإلهام)، فلو افترضا جدلاً أن طرحهم صحيح، فيعني أن الشعراء لا وظيفة لهم إلا التلقي والتلقين، وهذا الأمر في غاية الخطورة والحساسية، فالشاعر ليس نبياً حتى يوحى إليه ليبلغ، وإنما هو مغامر متحرك منهمك ليتجلى ويكتشف. لقد كان الفرزدق دقيقاً عندما قال حكاية عن الحالة الشعرية والمخاض الغامض الذي يعيشه الشاعر من أجل نتاج نصه في أكمل وجه: «أعسر من قلع ضرس».
من هنا، نستنتج أن العملية الشعرية في غاية التعقيد والصعوبة، وأعنت مما يتصور العادي، فالشعر طعام مجازي ووجبة تاريخية مستمرة متجددة، وبالتالي فالمبدع العاكف في محرابه لا بد أن يحس بمسؤولية عظيمة تجاهه، فيكون ناقداً قاسياً على ذاته، فينزع اللين واللطافة منها، لتعيش لحظات المحاسبة مع نتاجه وقصيدته، فلا يكتب كلمة خلف كلمة إلا وقد أخذ كل تدابيره اللازمة، وعلم أنهما لم تزدوجا ولم تجمعا من قبل، ولا ينتهي من بناء بيت شعري إلا وهو في كامل القناعة أن هذا البيت مختلق من عنديته، وأنه إضافة نوعية وليس تكراراً لما سبق، وأنه يسد فجوة فنية بائنة في هذا المعمار الكوني، حيث لم ينتبه لها إلا هو، فيسرع في سد ذلك الفراغ الهائل. لو تعامل الشاعر مع شعره بهذه الصرامة، فبكل تأكيد ستخرج القصيدة من صلبه طازجة منفردة ومقنعة.
ثمة صعوبات قد يجدها أقرانك من الشعراء الأفارقة، عند تعلم اللغة العربية كي تساعدهم في مشاريعهم الأدبية. بأي الأشياء يمكنهم التغلب عليها؟
- ربما لا أستطيع الحسم في قضية الحلول المواتية لتذليل هذه المشقات والصعوبات، لكن سأذكر لك شيئين أحسبهما في غاية الأهمية، وبتحققهما ستتحقق أمور من شأنها أن تخفف الكثير، وسيكون العطاء بعده أكثر نشاطاً، الأول: ضرورية وجود دور نشر متميزة تستقبل تلك الأعمال وتطبعها وتنشرها على أوسع نطاق، حتى تستيقظ الهمة في نفوس الشباب ويسيرون نحو الإبداع مجدداً، وفي نفس الوقت، هناك جهود جبارة وإرث شعري ثمين مكتوب باللغة العربية، لابد من الاهتمام به حتى لا تبقى هذه الجهود عرضة للضياع، فكم من إرث شعبي أو علمي ضاع بسبب عامل من عوامل الزمن. الثاني: وجود مراكز أدبية في مختلف الدول والمدن الإفريقية ترعى هذه المواهب الشابة بشكل دائم ومستمر.
سافرت وتجولت في العديد من المدن والبلدان.. إلى أي مدى تحب السفر وماذا أضاف لك؟
أعتبر أن كل مدينة فيها قصيدة تنتظرني، لذا تحتاج الحاجة الماسة إلى الاكتشاف، ومحاولة بث ضوء في الأماكن المعتمة في الذاكرة، فدوام السفر والتنقل يقدم للقصيدة إضافة نوعية إيجابية، لا يجود الزمان بمثلها كثيراً.
نحن في لحظة الكتابة عاطفيون أكثر مما نكون، والشاعرية تتجلى في قدرة الشاعر على نقد نصه، وتصفيته كي يحز كل الشوائب المحفوفة بالجوهر، عندها سيخرج لنا التمثال الثمين الذي يستحق الظهور.

ذو صلة