(لن يسمح لك باستخدام حامل الكاميرا، إن أردت التقاط صورة داخل المكان، فهذا متحف).
يخاطبك حارس الحدائق الصيفية بمودة، وهو يشير إلى معدات التصوير خاصتك، وعندما يسمع لغتك المطعّمة بلكنة أجنبية، يمازحك، استمتع بالدخول المجاني، وأضف إلى معلوماتك أنه فيما مضى، لم يُسمح بالدخول إلى الحديقة، إلا بدعوة من بطرس الأكبر، ولاحقاً، سُمح للأشخاص الذين يرتدون ملابس لائقة بالسير هنا.
أما في القرن التاسع عشر، فقد أصبحت الحدائق مكانًا مفضلاً لاحتفالات نبلاء مدينة سانت بيتربورغ، من أمثال بوشكين، كريلوف وتشايكوفسكي. كما كانت وما تزال مكانًا مفضلاً للعشاق.
يختم جرعة معلوماته ضاحكاً، فتشكره، وتفكر وأنت تدخل في رأي بطرس الأكبر فيما لو رأى قبعتك وبنطال الجينز الذي ترتديه.
بعد خطوات قليلة، يقدم المكان أوراق اعتماده مؤكداً لك أنه يتجاوز المفهوم المتعارف عليه لكلمة حديقة، بكل ما تعنيه من خضرة وماء وأزهار، ويمنح قاصده فرصة الاطلاع على تاريخ روسيا ومدينة سانت بيتربورغ، والتمتع بمنحوتات فنية أبدعتها أنامل نحاتي أوروبا في أوج سنوات ازدهار ذلك الفن، ناهيك بالمعارض الفنية المتعددة على مدار الموسم الصيفي.
أضف إلى ذلك كله الموقع المميز الذي تشغله الحدائق الصيفية في قلب عاصمة الثقافة، وفينيسيا الشمال، سانت- بيتربورغ، والإطلالة الجذابة من أحد مدخليها على نهر نيفا، أحد شرايين المياه الأساسية في المدينة.
و من الطرف الآخر تمدّ الحدائق كف سلام أخضر لقلعة القديس ميشيل، المنتصبة بكل فخامة وأناقة بلونها المريح للعين والقلب معاً.
كل ذلك يوضح لهفة ساكن المدينة وزائرها، وترقب انتظار الموعد المحدد لافتتاح الحدائق الصيفية في كل عام.
بداية الحلم الصيفي
يعود تأسيس الحدائق الصيفية إلى عام 1704، بناء على أوامر مؤسس مدينة سانت- بيتربورغ، القيصر الروسي بطرس الأكبر (1672 - 1725).
بدأ البناء من قبل السيد إيفان ماتفيفيتش أوجريوموف تحت قيادة بطرس الأكبر، الذي حلم بفرساي، وساهم بشكل شخصي في تخطيط الحدائق، التي صيغت وفقاً لمبادئ هندسية صارمة، وقد ساعده في ذلك الحدائقي والفيزيائي الألماني نيكولاس بيدلو.
واحتفاء بالعاصمة الروسية الجديدة (سانت بيتربورغ)، استقدمت تماثيل الرخام من أوروبا لتزين الحدائق- المتحف، وشيدت نوافير المياه التي تستقبلك بمجرد دخولك إلى ذلك العالم الغني بتنوعاته المختلفة.
أما بالنسبة للنباتات والأزهار، فقد تم إحضارها فيما بعد، وذلك من قبل الحدائقي الألماني جان روسين، الذي كان المسؤول الحدائقي الأول حتى عام 1726.
وفي عام 1716، وصل إلى المدينة المهندس الفرنسي المعماري المعروف جين بابتيست لي بلوند، ليضع لمساته، ويضيف إلى الحدائق الصيفية، نكهة الحدائق الفرنسية.
وهكذا حتى اكتمل تأسيس التحفة الخضراء في عام 1719.
وكما كانت الحدائق الصيفية متنفساً لأهل البلاط بعيداً عن أجواء قصورهم، ومكاناً لجلسات النبلاء في الهواء الطلق، فهي اليوم متنفس لسكان المدينة وزائريها على اختلاف أعمارهم، ملعب للطفولة يؤمن لها المساحات الممتدة للصخب والانطلاق بحرية وأمان، وملتقى العشاق في جلسات هادئة، ونزهة العائلة في قلب المدينة، ومكان مثالي لعشاق التصوير الفوتوغرافي، ومخرجي الأغاني والمنوعات الفنية.
أحداث في ذاكرة المكان
يشكل عام 1777 تاريخاً حزيناً في ذاكرة الحدائق الصيفية، وذلك بسبب تعرضها في ذلك العام لتدمير رهيب بسبب الفيضانات الشديدة، وفقدت من جراء ذلك الكثير من تماثيلها ونوافيرها التي تكسرت بشكل شبه كامل، وبعد جهد كبير تم ترميمها وإعادتها لشكل قريب من شكلها الأول.
و بعيداً عن الذكريات المؤلمة، تضيف الحدائق الصيفية إلى قيمتها قيمة أخرى، وذلك كونها المكان الذي احتضنظ وهو قائم حتى يومنا هذا، ويشكل ركناً أساسياً من أركان زيارة الحدائق الصيفية، ومكاناً محبباً عند أهل المدينة.
يتكون القصر المشاد على الطراز الهولندي، من طابقين، ويتميز بسقف مرتفع، ويعد من أول قصور الأحجار في المدينة، أما حجرته الداخلية، المحفوظة حتى الآن، فتبدو متواضعة نسبياً.
الحدائق الصيفية بعيون اليوم
بمجرد دخولك المكان، أنت على موعد مع طرق مشجرة تبعث في نفسك السكينة والاطمئنان، توضعت على جانبيها تماثيل من الرخام الأبيض، يبلغ عددها تسعة وسبعين تمثالاً، صاغتها أنامل النحاتين الإيطاليين في القرنين السابع عشر والثامن عشر، نحاتين مثل بيترو باراتا، فرانسيسكو بينزو، بارتولوميو موديلو وغيرهم الكثير.
وتعدّ هذه التماثيل الفريدة من أقدم التماثيل الموجودة في روسيا، ولم يكن اختيار المواضيع الأسطورية كثيمة أساسية للتماثيل من باب المصادفة، فلقد عكست صور الآلهة وأبطال العصور القديمة جملة الأفكار التي آمن بها القيصر الروسي بطرس الأكبر من أجل إعادة تشكيل الدولة، إضافة إلى ما عرف عن شخصيته من حيوية ونشاط، وانطلاق نحو معرفة الجديد في كل المحافل والمجالات
وللطفولة في الحدائق نصيب كبير، ففي فسحة خاصة وضع التمثال البديع لكاتب الأساطير الروسي الشهير إيفان آندريفيتش كريلوف، الذي يحمل توقيع النحات بيتر كلودت، ويرتكز التمثال على منحوتات نافرة، تمثّل الحكايات الخاصة والمواضيع التي عمل عليها الكاتب، وأثرى بها تاريخ أدب الأطفال الروسي.
يشكّل التمثال قبلة للأطفال لا لالتقاط الصور قربه وحسب، بل لمراقبة الكاتب وهو يحمل كتابه بيده، ويقصّ عليهم حكاياته، أو التفاعل مع الشخوص النافرة، وحبك حكاياتهم الخاصة حولها.
كما تتباهى الحدائق بمقهاها المميز، المصمم من قبل المهندس الإيطالي كارلوس روسي، وبيت الشاي الذي نفذه لودفيغ شارلمان، وهما مكانان مزدحمان على الدوام، وخاصة أن الشاي مشروب الروس المفضّل، وزوار الحدائق بشكل عام، يمضون النهار بطوله في ذلك المكان الساحر.
أما سور الحدائق، الذي صممه المهندس المعماري يوري فلتن بين عامي 1773- 1786 وأطلقت عليه الشاعرة آنا أخماتوفا، لقب (الأفضل في العالم)، فيمنحك انطباعاً بالرقة والفخامة في الوقت نفسه، ويمكنك أن ترى على شبك الحديقة الصيفية، لوحة تذكارية محصنة في المكان الذي أطلق فيه الثائر د. كاراكوزوف النار على الإمبراطور ألكسندر الثاني في عام 1866.
نشاطات فنية متنوعة
لا يتوقف الجانب الفني في الحدائق الصيفية عند قصر بيتر الصيفي أو التماثيل والمنحوتات المعروضة، بل يتجاوزها إلى المعارض الفنية التي تقام على جانبي الطرق الواسعة الموجودة هناك.
ففي السنوات الأخيرة، استضافت الحدائق معارض متنوعة، مثل معرض التصوير الفوتوغرافي، الذي عرض صوراً للحياة البرية بتعاقبات فصولها، وتعدد مخلوقاتها، وقد لاقى المعرض استحسان جمهور الزوار على اختلاف أعمارهم، وتحوّل إلى مقصد دائم بغية التقاط صور يتعانق فيها جمال الصورة الفوتوغرافية مع سحر الحدائق الصيفية.