مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

إمبراطور وادي السيليكون الذي غزا العالم

مسلسل عن المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة (أوبر) ترافيس كالانيك، كيف يمكن ألا يخطر على الذهن فوراً، فيلم ديفيد فينشر (الشبكة الاجتماعية) الذي تناول هو الآخر مؤسس (فيسبوك) مارك زوكربيرغ، وكيف يمكن ألا نعقد المقارنات. لماذا ذلك الفيلم بالتحديد وليس أياً من الأفلام التي تناولت مؤسس (آبل) ستيف جوبز أو أي رائد أعمال آخر؟ لأن فينشر صنع الفيلم المكتمل، الفيلم المرجع لأي مخرج يريد تقديم أي جديد عن حيتان وادي السيليكون، ومن هنا فالمقارنة أمر لا مفر منه، كالانيك شخصية صعبة ومُركبة، نجح في جعل أوبر أثمن شركة ناشئة في العالم، والأهم من ذلك هو أنه نجح في تغيير شكل ومفهوم النقل إلى الأبد، طوال فترة توليه قيادة الشركة وهو يثير الجدل داخل الشركة وخارجها، يُطرح حوله الكثير من التساؤلات، كل ذلك يتشابه كثيراً مع ما فعله زوكربيرغ الذي غير شكل التواصل الإنساني، مع فارق درامي مثير، وهو أن كالانيك فشل في الاحتفاظ بمقعده في الشركة، وتخلى عنه بسلسلة من الفضائح، فكيف تناوله المسلسل؟
تظن في البداية أنك ستشاهد نقاط حبكة متشابهة مع فيلم الشبكة الاجتماعية نظراً لتشابه القصص، ولكن عند الدخول في التفاصيل ستجد أن التحديات التي واجهت زوكربيرغ في إنشاء فيسبوك، هي بمثابة نزهة في الملاهي مقارنة بما واجهه كالانيك، وكان أولها هو إقناع رجل الأعمال والمستثمر بيل غورلي بفكرة التطبيق وقبول المخاطرة وضخ المال به، والمفارقة أن العائق الحقيقي أمام إقناعه هو غطرسة ترافيس واعتداده بنفسه بطريقة تجعله لا يقبل أن يظهر بمظهر الضعيف الذي يحتاج للآخرين، ومع ذلك تمكنت صديقته آنجي من إقناعه، ما جعله يستخدم أسلحته في الكذب والتضليل والخداع، بدءاً من إخباره أنه هو صاحب الفكرة وليس صديقه جاريت كامب، وحتى الوضع المالي الحقيقي للشركة، مع مشهد مثير للإعجاب -قد لا يكون حدث في الواقع- عندما خرج الرجلان لطلب تاكسي، فاستخدم ترافيس التطبيق ووفر سيارة أوبر فوراً.
الصعوبة التالية والأكثر تعقيداً والتي تجعل انتشاره بمثابة معجزة إذا ما قارنته بجميع تطبيقات التواصل الاجتماعي، وهو أن أوبر تطبيق على الإنترنت نعم، ولكن الاستفادة منه لن تحدث ما لم يكن له وجود على أرض الواقع، فإن لم تكن هناك سيارة متوفرة لنقل الفرد من مكان إلى الآخر فوراً، فلن يكون له أي قيمة، والواقع يعني الدخول في منافسة مع الشركات وأصحاب سيارات الأجرة في ملعبهم الذي امتلكوه بحرية لعقود طويلة، ولذلك كان من الطبيعي أن تتوالى الاحتجاجات من سائقي التاكسي الذين صبوا غضبهم على سائقي الأوبر، ولم يكن مستغرباً أن يتعرضوا للعنف، من ناحية أخرى هناك تفاصيل بيروقراطية وقانونية لا يمكن تجاوزها، فعندما تعمل كشركة لتأجير السيارات يجب أن تحصل على رخصة من بلدية المدينة، ولذلك كانت مواجهة عمدة المدينة أمر لا مفر منه، وأصبح إنهاء مشروع أوبر بكامله مهدداً بالفناء، لولا حيلة كالانيك بالاعتماد على بطاقة الضغط الجماهيري المطالب بتوفير الخدمة، حتى لو اضطر إلى تعبئة أحد الصناديق التي تحمل أوراق المطالب ببقايا قمامة فقط لكي يصنع هرماً من الصناديق ليكون ذو مظهر مؤثر، ولا يخلو الأمر من الإقناع بطرق ملتوية مثل الرشاوى في صورة تبرعات، أو حتى إغلاق شركة أوبر كاب لتأجير السيارات في صورتها الأولى، وفتح بدلاً منها شركة أوبر للخدمات التكنولوجية، كحيلة قانونية للهروب من المسائلة القانونية، وهكذا أصبح كالانيك إمبراطوراً حقيقياً يغزو المدينة تلو الأخرى ليستقر بها ويبحث عن المدينة التالية، وكانت الخطة الأكبر هي غزو مدينة نيويورك، التي قال لأعضاء فريقه بالشركة إنه لو نجح باحتلالها، فلن تقف أي مدينة أخرى أمامه في العالم.
ولأن ما تقدمه أوبر هو مجرد خدمة وليس اختراعاً يمكن الحصول على حق حصري في استخدامه، فكانت الشركات المقلدة والمنافسة أمراً متوقعاً، خصوصاً إذا كانت تقدم خدمة أفضل بأسعار أقل، ولكن كيف؟ بدأت أوبر كشركة نقل سيارات ليموزين فاخرة بأسعار مرتفعة، وهو ما استغلته شركة ليفت لتضخ للسوق سيارات حديثة ولكن عادية وبأسعار معقولة، ومكافآت سخية للسائقين الذين يقدمون تجربة لطيفة للركاب، وهكذا انتشرت ليفت بسرعة الصاروخ، بين الناس، وهو ما جعل أوبر كالانيك يتخذ عدة إجراءات سريعة قبل أن يطوي النسيان تطبيقه، فقد ميز بين نوعين من الخدمة، الخدمة الموفرة بسيارات عادية، والخدمة الإكس المميزة، كما سعى للحصول على التمويل اللازم ليتمكن من شراء ليفت ويبقى وحده في السوق، وبالفعل نجح في الحصول من جوجل على تمويل بقيمة ربع مليار دولار، وهو أكبر مبلغ تستثمره جوجل على الإطلاق في شركة ناشئة، وبالفعل ينجح في إزاحة ليفت ودون الحاجة إلى شرائها.
تتزايد التعقيدات بشكل طبيعي، لأنك عندما تلعب مع الكبار، فإنك تلعب الآن وفقاً لقواعدهم هم، وبعيداً عن التدخلات في رؤية وفكر كالانيك في قيادة الشركة وقراراته، فالمصيبة الأكبر عندما يعلم أن جوجل رغم استثمارها معه بمبلغ خرافي، فإنها تعمل على قدم وساق في مشروع السيارات ذاتية القيادة، بل ولا تخفي أنها في حال جاهزيته الكاملة ستُطلق تطبيق نقل معتمداً على سياراتها، وهو ما يعني زوال أوبر تماماً، وهنا يدخل كالانيك في صراع حياة أو موت معهم، وينجح في استقطاب رئيس قسم المشروع بجميع طاقمه إلى شركته بعيداً عن أعين جوجل، قبل أن تجبره الأخيرة على التخلي عنه بدلاً من أن تسحب استثمارها بالكامل، وبالطبع يرضخ لمطلبهم. ومن ناحية أخرى تضغط عليه شركة أبل التي اكتشفت أنه يخرق قواعد الخصوصية لعملائه، فأوبر كانت تتصنت وترى هواتف عملائها حتى بعد أن يغلقوا التطبيق، بدافع دراسة عملائها وتوفير أفضل خدمة ممكنة لهم، ولكن أبل بقيادة تيم كوك صممت أن تحذف أوبر من متجرها في حالة استمر كالانيك فيما يفعله، مما جعله يرضخ لرغبتهم في النهاية، خصوصاً بعدما عاقبوه بالاستثمار في شركة ديدي الصينية.
تلك الشركة وغيرها من شركات الصين المحلية، جعلت غزوه للصين عملية انتحارية مستحيلة التنفيذ، رغم نزيف الأموال الذي قدمه لإغراء قائدي السيارات هناك، إلا أن الأمر أكبر بكثير من ذلك، فالحزب الحاكم في الصين لن يسمح لشركة تقنية أمريكية بالتوغل على أراضيه، وهكذا تحطمت أحلام كالانيك على صخرة الصين الصلدة، قبل أن يواجه الشكاوى العالمية التي بدأت تلاحقه من جراء ما يحدث في سياراته، سواء من اعتداء السائقين الجدد في أوبر على الركاب بالسرقة أو الاغتصاب، أو اعتداء اللصوص على سائقي أوبر دون أن يوفر أي حماية لكلا الطرفين، وهو ما أكسب التطبيق سمعة عامة بالغة السوء، زاد الأمر سوءاً انضمام كالانيك إلى المجلس الاقتصادي للرئيس الأمريكي منخفض الشعبية دونالد ترامب، الذي أغضبت سياساته وتصريحاته العنصرية ضد المهاجرين استياء عدد من سائقي أوبر من المهاجرين، ووصلت الأزمة إلى تهديد حقيقي مع انطلاق هاشتاق (احذفوا أوبر) الذي تجاوب معه عشرات الآلاف من الأمريكيين وحذفوا التطبيق بالفعل من هواتفهم الذكية، مما جعله يعتذر لترامب عن الاستمرار في فريقه الاقتصادي، ولكن جاءت الضربة القاضية بانتشار فيديو يوبخ فيه أحد سائقي شركته، الذي يشتكي له من خسارة الأموال، وتخفيض تعريفة النقل بصفة مستمرة، مما تضطره للعمل ليل نهار دون جدوى، ذلك الفيديو الذي جعل كالانيك يدرك أن أكبر عائق وتحدي أمامه ليس كل ما سبق ذكره، ولكنه كالانيك نفسه.
من المفارقة أن تكون عيوب ترافيس كالانيك هي ذاتها السبب في نجاحه، ولكنها عيوب لا تستطيع الصمود أمام المتغيرات المختلفة، لأنها مغلفة بالغرور والعناد، وهو ما يجعله يفتقر إلى المرونة والانسحاب في الوقت المناسب، دائماً إما أن يربح المعركة عن آخرها، أو أن يخسر كل شيء، وهو ما كان جلياً في شخصيته منذ اللحظة الأولى، فهو يحب العمل مع الأوغاد، كاذب ومخادع، أناني لا يملك أي ولاء إلا لنفسه، يتخلى عن حبيبته بنذالة، يتخلى عن أخيه وهو في أمس الحاجة إليه، لا يمانع في اختراق خصوصية الآخرين، يسرق الموظفين من الشركات الأخرى، يتعامل مع موظفيه بعقلية العصابات ويعتبر أن الشركة هي ساحة الحرب الذي يجب أن ينتصر بها دوماً، لم يسع أبداً لتوفير بيئة عمل آمنة وخالية من التحرش للموظفات، وهو ما تسبب في انخفاض عدد الموظفات بشكل مريب ومشبوه في البداية ومخجل وفضائحي في النهاية، خصوصاً أن إحدى الموظفات خرجت للإعلام ونشرت كتاباً عن الانتهاكات التي تعرضت لها، يؤمن كالانيك أنه لا يستطيع تغيير العالم وفقاً لقواعده، ولذلك يجب أن يكسر القوانين، كل القوانين، مهما تسبب ذلك في جعله شخصاً منحطاً وغير أخلاقي.
ثلاث نساء فقط امتلكن معاملة خاصة من طرفه، أمه بوني كالانيك وشريكته بالعمل آريانا هافينغتون، وحبيبته آنجي يو قبل أن يبدلها بعازفة الكمان جابي هولزوارث، فقد كان للثلاث دور متشابه للغاية، إن لم يكن متطابقاً، وهو تهدئته عندما يقوم بمصيبة في العمل، مثل أن يصرخ في موظفيه، أو يتكالب ضده أعضاء مجلس الشركة، أو يشعر بالتوتر لأنه سيقابل مستثمراً جديداً، كل واحدة منهن كانت تمتص غضبه وخوفه وتوتره بطريقتها الخاصة، وترشده إلى التصرف السليم، ومن الواضح أنه تعود على ذلك مع أمه منذ الصغر التي كانت تمنحه الحنان والعطف، ووجد في آنجي البصيرة والذكاء لمساعدته، وتجلى الأمر مع هافينغتون التي باتت كما لو كانت طبيبته النفسية، كما أنها تمتلك السلطة والنفوذ في دعمه وتنفيذ قراراته بالشركة، وعلى الرغم من كل ما فعله من كوارث ظلت تلك النساء صامدات ويدعمنه، حتى تساقطن الواحدة تلو الأخرى وتخلين عنه، أمه في البداية بعدما ضجرت من تصرفاته الهوجاء حتى وهو قائد واحدة من أقوى شركات العالم، وجابي التي رأت في توبيخه للسائق وحشاً حقيقياً، وهافينغتون التي سمعت بأذنيها عشرات الشهادات من موظفات الشركة عما يحدث بها، وعن بيئة العمل السامة التي يعملن بها، ليس فقط بسبب التحرش ولكن زادها عنصرية وازدراء، وهو ما جعلها في النهاية لا تجد مفراً من موافقة الشركاء على أن كالانيك لابد وأن يترك أوبر.
وعلى طريقة مسرحية شكسبير (يوليوس قيصر)، يتواطأ الجميع على إطاحة إمبراطورهم من مقعده، يدور كالانيك عليهم واحداً تلو الآخر في محاولة منه لإنشاء جبهة تحالفه وتقف في وجه الآخرين، ولكن يجد الجميع قد تخلى عنه، حتى أعز أصدقائه يتخلى عنه وهو ما يدفع كالانيك أن يقول له غاضباً: (لن أقول حتى أنت يا بروتس، اللعنة عليك)، في توكيد آخر على أننا نشاهد نشأة إمبراطوريات العصر الحديث، تلك التي تدور حول الاقتصاد وعالم المال والأعمال، وليس السياسة والحروب بالضرورة، لا يجد ترافيس ولو شخصاً واحداً يقف في صفه، وفي مشهد ختامي شديد الذكاء، يغلق كالانيك تطبيق أوبر من هاتفه، ويستقل سيارة أجرة عادية إلى المطار.

ذو صلة