مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

علم اجتماع الأدب.. أناقة وعمق

حيثما يكون الأدب يكون الرقي المعرفي، والإنسانية في أبهى صورها، وترتقي أساليب التعاطي والتبادل الثقافي، وحيثما يكون علم الاجتماع يكون الحضور الوارف للمنهجية الرصينة والدراسات الفاحصة التي تربط أجزاء الكينونة الإنسانية، والوجود البشري وكل ما يؤثر فيه ويتأثر به.
فالأدب متنفس للحياة ومفرغ لشحناتها الزائدة عن طاقة الإنسان في يومه ودهره، يملأ بها جنبات الحياة، لتتوزع على الأشياء من حوله فيأخذ كل منها حاجته، ليعود معتدل الروح متطلعاً لوجود أجمل، وواقع أكثر رحابة وبشرية أقرب إلى حياة تلامس السعادة جوانبها وتمهد لمستقبلها.
وحتى لا نذهب بعيداً عن علم اجتماع الأدب وأناقته وعمقه، فإننا بحاجة إلى أن ننطلق مع هذا المجال المعرفي من البداية لنلبسه حلته التاريخية ونمضي به باختصار، إلى حيث ما هو عليه الآن.
احتضان علم الاجتماع لـ(الأدب)
لم ينفصل أي علم من العلوم عن لحظات الميلاد الأولى لعلم الاجتماع، إلا أن التجلي المنهجي لكل علم من هذه العلوم جاء وفق مقدمات استرشادية تحدد أبعاد أي منها، وكانت الاسترشادات المبكرة لاحتضان علم الاجتماع لـ(الأدب) متناثرة في العديد من الدراسات الاجتماعية وصولاً إلى رؤى العلماء المؤسسين لعلم الاجتماع، ومن ثم بدأت ملامح العلم الجديد تتخذ شكلها وقالبها العلمي.
وكانت البدايات العلمية الأقرب لميدان علم الاجتماع، مع (أوجست كونت) (1798 - 1857)، مؤسس علم الاجتماع الغربي.
فاوجست كنت قرر المراحل الثلاث التي مرت بها المجتمعات، الميتافيزيقة واللاهوتية والوضعية، وكل شؤون الحياة تخضع لهذه المراحل من وجهة نظره، والفن والأدب من ضمنها (بوشاكور، 2013: 7).
ثم جاء مؤسس علم الاجتماع الأكاديمي (أميل دوركايم) (1858 - 1917)، الذي اهتم بالأدب والفنون، ودرسها من منطلقاتها التاريخية، محاولاً رسم المنظور الاجتماعي لها وواقع تأثيرها وتأثرها ووظائفها في المجتمع (السابق: 8).
ومن المحطات التي لا يمكن إغفالها، قبل مرحلة كونت ودور كايم الواردة سابقاً. المرحلة التي فسر فيها الفيلسوف الإيطالي (جان بابتيست فيكو) (1668 - 1744)، الأدب تفسيراً سوسيولوجياً مادياً، من منطلق أن الواقع الاجتماعي هو مصدر الإبداع الفني والجمالي (حمداوي، 2015: 18).
وكذلك محطة (مونتسيكو) (1689 - 1755) الذي كان ينظر إلى الأدب على أنه ظاهرة اجتماعية (السابق: 15 - 17).
أما أول محاولة صنفت على أنها محاولة جادة في ميدان النقد السوسيولوجي فقد كانت على يد (مدام دوستايل) (1766 - 1817)، في كتابها عن الأدب وعلاقته بالمؤسسات الاجتماعية (السابق:14,17).
مقاربة اجتماعية أدبية من خلال المذاهب الأدبية
لعله من المناسب أن نعرض بنوع من المقاربة بين المذاهب الأدبية والعوامل الاجتماعية التي منحت هذه المذاهب مسمياتها، ليتضح مدى التأثير المباشر والقوي والرئيس للواقع الاجتماعي على الأدب، وسوف نعتمد في هذا العرض على مرجعيين أساسيين في المذاهب الأدبية (لعبدالرزاق الأصفر) و(محمد مندور)، والمذاهب الأدبية حسب تسلسلها مع بعض التداخل بطبيعة المراحل، وقد يكون هناك من يرتبها بشكل مختلف ويضيف لها مذاهب أخرى، كالتالي:
- الكلاسيكية.
- الرومانسية.
- الرمزية.
- الواقعية.
- الطبيعية.
- السريالية.
- الوجودية.
فعلى سبيل المثال (المذهب الكلاسيكي) على الرغم من أنه جاء وفق القاعدة العامة للنهضة الأوروبية التي ارتكزت على بعث الآداب والثقافة اليونانية واللاتينية القديمة، وما تحمله من قيم ومبادئ، إلا أن الدافع الاجتماعي المتمثل في إصرار الفرنسيين على أنهم هم ورثة هذه الآداب والأحق بها، لذلك تلقفوها من إيطاليا التي نزح إليها علماء بيزنطة أو القسطنطينية عندما وقعت في يد الأتراك، وحمل هؤلاء العلماء معهم المخطوطات القديمة التي انتقلت من إيطاليا إلى فرنسا، ليكون ازدهار المذهب الكلاسيكي وبروزه الحقيقي في فرنسا.
موضوع علم اجتماع الأدب
نحن أمام ثلاثة عناصر رئيسة للمنتج الأدبي:
1 - كاتب.
2 - نص.
3 - محتوى.
فعلم اجتماع الأدب ينظر للعنصر الأول (الكاتب)، من عدة جوانب.
كالبيئة التي عاش فيها الكاتب أو ينتمي لها بكافة عناصرها وكل جوانبها، كذلك وضعه الاجتماعي وطبقته الاجتماعية ومن حيث طبيعة مهنته وغيرها (العرفج، 1417: 3-7).
أما من حيث العنصرين الآخرين، الثاني (النص)، والثالث (المحتوى).
فيمكن إجمال الحديث عنهما، فالنص هو أي جنس أدبي سواء أكان شعراً بمختلف قوالبه أو نثراً من قصة أو رواية أو خاطرة.
ويعد النص المادة الأساسية في الدراسات الاجتماعية للأدب، وهو المخزون الاجتماعي الذي يحاول المتخصص في الأدب من المنظور الاجتماعي سبر أغواره ورصد كل ما يكتنزه من مادة اجتماعية، ولغة حية داخل النص الأدبي، وهنا ندخل في العنصر الثالث (المحتوى).
وكلما كان النص الأدبي زاخراً بالحياة والحراك، ومتدفق المشاعر، كان أنسب للقراءة الاجتماعية، وكلما طغت الحالة التعبيرية المجردة على حساب الأحداث كلما أصبح أقل فائدة للدراسات الاجتماعية، وقد يكون أنسب للدراسات البلاغية والأسلوبية والفنية.
ورغم ذلك فإنه في حالات معينة، تتعمد بعض الدراسات الاجتماعية الاهتمام بمثل هذا النوع من النصوص من جانبها اللغوي، فاللغة مؤسسة اجتماعية تعطي الكثير من الانطباعات الاجتماعية من حيث اللغة والأسلوب وطبيعة المفردات المستخدمة وصيغ الخطاب ومستوياته.
عناصر أخرى تهم الدراسات الاجتماعية للأدب:
- الجمهور.
- المؤسسة الثقافية.
- دور النشر.
في بعض الحالات تحتاج طبيعة الدراسة أو أهداف الباحث التوسع في العناصر المدروسة، فالجمهور الذي يتوجه إليه الكاتب أو يتجه إليه النص بقصد أو غير قصد، من الأهمية بمكان، ودراسة مدى التأثير المتوقع من النص، ودراسة احتمالية سوء الفهم الذي قد يقع لأي سبب، إما بسبب اختلاف الثقافة والمفاهيم في أبنية النص وبين الجمهور المتوقع وصول العمل الأدبي إليه، وإما بسبب أحداث ومواقف استجدت في المشهد الاجتماعي وغيره.
كما أن المؤسسة الثقافية الرسمية والمسؤولة عن رعاية المنتج الأدبي والأديب، من المعطيات البحثية المهمة في بعض الدراسات.
وفيما يخص دور النشر ومسيرة العمل الأدبي، فإن هذا الجانب يشمل كل أوعية النشر وطرق إشهار العمل الأدبي، ويمكن أن تشمل الدراسة الاجتماعية لهذا الجانب الجانب المؤسسي من حيث كونه نسقاً اجتماعياً يتكون من وحدات متعددة وأشخاص تتكامل فيما بينها لخدمة العمل الأدبي، وتتعامل معه من وجهات نظر متعددة، ومنطلقات فكرية وأيديولوجية متباينة أو متشابهة، ويكون لها دور مهم في شكل الأدب الدارج المتاح بوفرة في سوق النشر، والأدب النخبوي المحدود التداول عن طريق تسخير أدوات النشر وتوظيفها بما يخدم أي الهدفين.
عناصر متفرقة مهمة في دراسة علم اجتماع الأدب:
-الأيديولوجيا.
- الأجيال الثقافية.
- أدب الأقليات.
هذه العناصر الثلاثة يأخذها علم اجتماع الأدب في الاعتبار بالإضافة إلى العناصر الواردة سابقاً، بشكل ضمني أو صريح.
فمثلاً، أدب الأقليات، يأخذ بعين الاعتبار هموم هذه الفئة الاجتماعية وطموحاتها وتطلعاتها، وتستطيع الدراسة الاجتماعية للأدب من خلال دراسة هذا الجانب أن تشكل فكرة كاملة، وتصوراً واضحاً عن خلجات نفس هذا المكون المهم والمثري للنسيج الاجتماعي، إنسانياً وثقافياً ووجدانياً وحضارياً.
علم اجتماع الأدب في العالم العربي
عند الحديث عن علم اجتماع الأدب، فنحن إنما نتحدث عن فرع من أصل، والأصل هو (علم الاجتماع)، ونحن وإن كنا لا ننكر فضل المدارس الغربية وغيرها على علم الاجتماع بشكل عام وعلم اجتماع الأدب بشكل خاص، فإننا لا ننسى فضل المؤسس الأول لعلم الاجتماع، العالم العربي المسلم العبقري (ابن خلدون)، الذي أعطى للأدب مساحته من التناول في مقدمته الشهيرة، ويمكن أن نقول إنه قد ألمح في مقدمته إلى جوانب عدة من الجوانب التي يؤثر فيها المجتمع والبيئة على الأدب والأديب، وقد أشار (بندر رفيد العنزي) في بحثه في مجال اللغة العربية وآدابها بعنوان (ابن خلدون ناقداً) إلى إحدى الدراسات التي تناولت آراء ابن خلدون النقدية في مجالي الشعر والنثر، وتأثير الاختلاط والعزلة والعصر والبيئة على صحة اللغة وفسادها.
رغم أننا نتحدث بهذه اللغة الواثقة عن علاقة علماء الاجتماع العرب بالأدب، إلا أنه على مستوى الواقع والمنتج المعرفي في هذا الجانب، فإن الواقع يوحي بشح الدراسات في هذا الفرع، وقلة المتخصصين فيه.
مع ذلك فإنه بالإمكان أن نشير إلى بعض المؤلفات والأسماء التي أسهمت في الإضافة العلمية والتثقيفية لهذا الفرع:
- السيد ياسين صاحب كتاب (التحليل الاجتماعي للأدب).
- سعيد يقطين، ونؤكد على ما ذهب إليه (استيرو) أن يقطين ممن اهتم بسوسيولوجيا النص الأدبي.
- عبدالله بن حمد العرفج (1417هـ) المشكلات الاجتماعية في المجتمع السعودي من خلال القصة القصيرة.
- محمد سعيد فرح، ومصطفى خلف عبدالجواد (2009) علم اجتماع الأدب.
- أمل حركة (2011) دراسات في علم اجتماع الأدب.
- بدرية البشر (2013) نجد قبل النفط.
- جميل حمداوي (2015) سوسيولوجيا الأدب والنقد.
- صالح رمضان (2015) الأدب بين علم الاجتماع وعلم النفس. النادي الأدبي بالرياض.
- عبدالله العرفج (1441هـ) علم اجتماع الأدب، كتاب المجلة العربية (283)، العدد (522) من المجلة العربية.
خاتمة
إن مستوى التكامل بين عدة مهارات مطلوب توافرها في الباحث في علم اجتماع الأدب، قد يبرر أهم أسباب قلة المتخصصين في هذا الفرع، وهذا لا يعني عدم توافر هذه المهارات في عدد كبير من متخصصي علم الاجتماع، لكن هناك عدة عناصر مجتمعه أو متفرقة تجعل الكثير منهم ينشغلون بفروع أخرى.
وفي الختام نأمل أن يتواصل الاهتمام الذي بدت ملامحه جلية بعلم الاجتماع بكافة فروعه، وأن نُخرج علم الاجتماع العربي من بوتقة التبعية المنهجية والبحثية لأي ثقافة، ولا نظل نأخذ فقط، بل نأخذ ونعطي ونتفاعل مع غيرنا ويتفاعل غيرنا معنا، ولا عيب إن أخطأنا، فمن يعمل يخطئ، وأن لا نخجل من الاعتراف بخطئنا، بالمستوى الذي نزهو ونعتد ونفخر به بعملنا المنجز الناجح، ضمن آخرين من البشر في كل أنحاء العالم، وفي ظل حقيقة ثقافة سائلة، لا ننكرها ولا نكابر في حقيقتها، مع إيماننا أن لنا لوننا الخاص الذي يميزنا رغم هذا التداخل والاندماج الثقافي.

ذو صلة