ساهم الموقع الجغرافي الإستراتيجي للمغرب في جعله موطناً لحضارات عريقة خلفت إرثاً ثقافياً متميزاً سواء أكان مادياً أو لا مادي، كما شَكَّل هذا الموقع مجالاً خصباً لاستقطاب مجموعة من الفنون وفي مقدمتها الطرب الغرناطي، الذي يعد أحد أبرز الألوان الموسيقية الوافدة على الحضارة المغربية إبان ضياع المسلمين للأندلس، وأصبح هذا اللون الغنائي مع مرور الزمن منتشراً على نطاق واسع، بل وأصبح يشكل جزءاً من هوية المجتمع المغربي في الزمن الراهن.
إن الحديث عن الموسيقى الأندلسية عامة والغرناطية خاصة في المغرب يجرنا إلى ذكر مدينتي وجدة والرباط اللتين اشتهرتا بهذا اللون من التراث الموسيقي، كما لا يمكن الحديث عن الطرب الغرناطي في هاتين الحاضرتين دون الإشارة إلى واقعه وتاريخه في القطر الجزائري، حيث تقوم له مدارس ثلاث تشكل كل واحدة منها اتجاهاً له ما يميزه في مجال الممارسة العملية، ويتعلق الأمر بمدرسة تلمسان، ومدرسة قسنطينة، ومدرسة الجزائر العاصمة.
أما أصل تسميته فإنه يوحي دون شك بما يفيد ارتباطه بحاضرة غرناطة، التي انتقل منها إلى البلدان المغاربية إثر انهزام إمارة (بنو نصر) أمام الغزو المسيحي وتسليم غرناطة إلى فرناندو وإزابيلا سنة (897 هجرية/ 1492م)، الشيء الذي أفرز معه ظروفاً اجتماعية جديدة ساعدت على خلق ممارسات وتقاليد فنية متميزة نبتت في أوساط الطوائف المسلمة المتبقية التي أُطْلِق عليها اسم (الموريسكيين)، والتي ستقرر الرحيل عن أرضها، وبالتالي ساهموا في نقل موروثهم الموسيقي إلى بلدان المغرب العربي.
وبعد خروجهم من غرناطة ظل حنين هؤلاء إليها، ولعل من أروع المقطوعات التي كانت وما تزال تتردد على ألسنة الوشاحين والمطربين المعبرة عن معاني الفراق والحنين إلى العودة ولقاء الأهل والأحباب مقطوعة (يا أسفي على ما مضى)، وهي متداولة في المدارس الموسيقية الثلاث بالجزائر، ومتداولة أيضاً في وجدة والرباط.
أما فيما يخص ارتباط الطرب الغرناطي بالمدينتين المذكورتين سالفاً دون غيرهما من المدن المغربية، فمن ورائه مجموعة من العوامل تعزى بالدرجة الأولى إلى هجرة وفود كبيرة من الموريسكيين الغرناطيين إلى المغرب، واختيارهم الاستقرار بهما نظراً لتشابه ظروفهما الطبيعية والثقافية والبشرية بأحوال غرناطة، الشيء الذي جعلهم ينقلون عاداتهم وتقاليدهم وفي مقدمتها الطرب الغرناطي.
هذا بالإضافة إلى عامل احتضان المغرب لمجموعة من الفنانين الجزائريين الذين هاجروا بلدهم خلال فترة حكم العثمانيين، ما جعلهم ينقلون الطرب الغرناطي الذي كان مزدهراً في الجزائر قبل المغرب، واستطاعوا نشره بين الهواة بشكل كبير في وجدة والرباط، بل وتعليمه لكثير من محترفي الموسيقى بالمغرب، كما استمرت هذه الهجرات الجزائرية إثر الاحتلال الفرنسي للمنطقة سنة (1830م).
وبهذا استمرت عملية نقل الموروث الغرناطي إلى المغرب على يد عدد من الموسيقيين المهاجرين من أبرزهم (محمد بن قَدُّورَة بن غَبْرِيطْ) الذي قَدمَ من تلمسان إلى الرباط خلال عشرينات القرن الماضي، حيث أصبح من أنشط العناصر التي تحتضنها الأجواق الغرناطية بالمغرب، فقد كان يلقن زملائه مبادئ هذا الفن، ويُعَلم في نفس الوقت الصنائع الأندلسية وطريقة إنشادها وعزفها، وقد أهلته خبرته وسعة ثقافته الموسيقية ليكون ضمن أعضاء الوفد المغربي الذي شارك في المؤتمر الأول للموسيقى العربية بالقاهرة سنة (1932م)، إلى جانب أقطاب طرب الآلة وعمدائها المغاربة آنذاك من قبيل: (الفقيه المْطِيرِي)، و(عمر الجْعَيْدِي).
ومن العوامل أيضاً نجد تعامل فناني مدينة وجدة بحكم موقعها الجغرافي المتاخم للحدود الجزائرية في جهتها الغربية، مع أعلام الموسيقى الغرناطية في تلمسان، ومثلما ينسب إلى (محمد بن قدورة بن غبريط) أنه نشر قواعد الطرب الغرناطي بالرباط، فكذلك ينسب إلى (محمد بن إسماعيل) أنه نشر هذه القواعد والمبادئ ذاتها بمدينة وجدة باعتباره أيضاً مهاجراً جزائرياً إليها خلال عشرينات القرن 20م، وقد أسس أول فرقة موسيقية لهذا الفن وترأسها بنفسه، ومنذئذ أولت الأوساط الفنية بهذه المدينة للطرب الغرناطي عناية خاصة تجلت في تعدد مراكز تلقينه، وكذلك الإقبال على تشكيل المجموعات الفنية.
إن الطرب الغرناطي يتشكل من ثلاث مكونات رئيسة: الأول شعري تمثله (الموشحات) باعتبارها قصائد شعرية ولكنها لا تخضع لوحدة البيت ولا تخضع كذلك لوحدة القافية، ويمثله كذلك (فن الزجل) الذي تكون كلماته بالعامية. والثاني نغمي الذي تجسده النوبة والبالغ عددها في الطرب الغرناطي اثنا عشر. أما الثالث فيتمظهر في الجانب الآلي الذي ينقسم إلى آلات وترية وإيقاعية ونفخية.
ومنذ دخول الطرب الغرناطي إلى المغرب توطدت مبادئ هذا الفن الموسيقي في أذهان المغاربة، وأصبحوا يبدعون فيه ويحاولون الحفاظ عليه وتطويره بمختلف الأساليب والطرق المتوفرة، كما عمل رواده على إنشاء مجموعات موسيقية أسهمت في التعريف بأغانيه وكلماته وألحانه ونوباته وآلاته المختلفة.
ومن أبرز المجموعات الموسيقية في وجدة نجد (الجمعية الأندلسية للطرب والمسرح والآداب) التي تأسست سنة 1921م برئاسة (محمد بن إسماعيل)، و(جوق السلام) الذي تأسس سنة 1951م برئاسة المرحومين (الشيخ إبراهيم الكَرْزَازِي) و(وَرَّادْ بومدين)، ثم هناك (جمعية النسيم للطرب الغرناطي)، و(الجمعية الموصلية للطرب الغرناطي)، و(مجموعة الشيخ صالح للطرب الغرناطي).
أما في الرباط فقد كان (أحمد بَنَّانِي) و(أحمد بِيرُو) من بين أوائل المؤسسين لهذا اللون الغنائي، وذلك بإنشائهم مجموعتهم الخاصة، وفي سنة 1985م تأسست فرقة (جمعية هواة الموسيقى المغربية الأندلسية بالرباط)، ومن الأعلام الذين ساهموا أيضاً في ازدهار الغرناطي بالرباط نجد الفنان (أحمد لَوْكِيلِي) القادم من مدينة فاس، والذي طور الموسيقى الغرناطية حتى أنه لُقب بـ(فقيه الطرب الأندلسي).
ومن أجل الحفاظ على هذا الموروث الموسيقي والعمل على ضمان استمراريته بين الأجيال تسهر مختلف الفعاليات بمدينتي الرباط و وجدة على تنظيم تظاهرات فنية، من أبرزها المهرجان الدولي للطرب الغرناطي الذي تحتضنه وجدة في كل سنة، والذي يستقبل مجموعة من الفرق الموسيقية سواء من المغرب أو خارجه.