مجلة شهرية - العدد (592)  | يناير 2026 م- رجب 1447 هـ

الكروم والحديد.. مستقبل النحاتين

يمتلك النحت الحديدي (الحديث نسبياً) أسماءً مهمة لنحاتين في العالم، كرّسوا ظاهرة النحت الحديدي، وهم ممن عاشوا عصر الحديد في أوروبا، وما بعد الحديد (الكروم)، مثل النحات الفرنسي (سيزار بالداكيني 1921 - 1998)، وهو صانع تمثال سيزر الذي يقدّم في حفل توزيع جوائز سيزر المختصة بالسينما. وفي أمريكا يدخل النحّاتون الكروم كثيراً في الأعمال الفنية، فهو معدن له علاقة بفكرة (الخلود والاستمرار)، لأنه معدن يقاوم الصدأ، ويعكس الضوء، فمادته لونها فضي، ولا تتأكسد، وتعمل نوعاً من الانعكاسات تقدم إيحاءات بعيدة، أما الحديد فلديه قابلية للصدأ. فالكروم يعكس الضوء، حيث يعطي جماليات خاصة للعمل، بينما الحديد يمتص الضوء، إنهما متعاكسان تماماً، ولذلك الحديد يُمكّن المتلقي من الدخول لعمق العمل النحتي، وتشعر أنه حتى المعدن عندما تحوله لعمل فني يصبح لديه شعور وإحساس، وتستشعر فيه الحركة والجمال، وكذلك الصدأ في الحديد يعطي جماليات وقيمة إضافية للمنحوتة والعمل.
تطور المادة الأولية للنحاتين
بالتأكيد، فإن النحت هو من أصعب وأهم الفنون الجميلة، حيث يقدّم للمتلقي أعمالاً ضخمة تنتصب في الساحات العامة والحدائق والقصور الفاخرة بأبعادها الحقيقية، مستخدماً النحات هنا (الكتلة والفراغ) في تكوين العمل الفني، وأخرى صغيرة بمدلولات رمزية وفلسفية.
وقد استخدم النحاتون منذ العصور القديمة الحجر، مادةً أولية هي الأكثر استخداماً وانتشاراً على مر العصور لوفرتها في الطبيعة الأم، ومقاومتها للزمن وعوامل المناخ. ومن ثم توجهوا نحو الخشب، فكان مادةً أولية قدموا من خلاله للعالم منحوتات رائعة تشعر الإنسان ببساطة الحياة، فالخشب حنون مطواع مأخوذ من أشجار الغابة العذراء، ومن الطبيعة تلك الأم المعطاء بلا حدود.
بقي الحال هكذا حتى منتصف القرن الماضي ليكتشف النحاتون أنه يمكنهم الاعتماد على المعادن لتكون مادةً أولية لمنحوتاتهم ونصبهم الكبيرة، فاستخدموا النحاس، ولكن على ما يبدو لم يحقق النحاس لهم ما أرادوه، فكان توجههم في السنوات الأخيرة نحو الحديد والألمنيوم (الكروم)، مشكلاً بذلك المادة الأولية لمنحوتاتهم رغم صعوبة التعامل معها، فبدؤوا يقدّمون للعالم المعاصر وللأجيال القادمة منحوتات غريبة، حيث استجاب الحديد والكروم بشكل قوي وسلس لأفكارهم الغريبة.
الآن وفيما بعد.. الميثولوجيا تحتاج مادة الحديد والكروم
يقول النحات السوري المعروف (مصطفى علي): الآن هو زمن نحت الحديد والكروم، وهو معاصر؛ لأن الحديد والمعادن التي بدأت بها العمارة الحديثة المعاصرة في العالم الجديد، واستخدامه في الفن جاء نتيجة معطيات معروفة كالعمارة الحديثة والصناعة، فالصناعة والفن مرتبطان ببعضهما، والتطور يرتبط مع بعضه البعض، فعندما تقدّم لنا الصناعة بمختلف فروعها من صناعة السيارات والآلات وصناعة الأبنية مواد مثل الحديد والفولاذ والبلاستيك؛ فسيؤدي ذلك إلى استثمار منعكساتها، وهي كيف يمكن أن نبني أعمالاً فنية من هذه الأفكار الجديدة؟ وأقصد هنا أن الصناعة عندما تنتج تكنولوجيا جديدة يكون لها منعكس على الفن، أي: كيف يمكن توظيف هذه المنتجات الصناعية بإنتاج عمل فني؟ وهو تاريخياً معاصر، وله أسماء كبيرة عالمياً، فمثلاً (دي فرانس) المدينة الجديدة قرب باريس تضم مساحات نحتية كبيرة كلها لأسماء نحاتين عالميين زينوا المدينة الجديدة بأعمالهم بمبانٍ عملاقة من الحديد والبلاستيك والزجاج ومن خلائط جديدة، كذلك متحف (بومبيدو) كله مبني من الحديد والمعادن، سواء في البناء أو الأعمال الفنية.
ولكن هل يعطي الحديد والكروم أشكالاً غريبة نحتية أسطورية حديثة مثلاً؟ بالتأكيد يحقق ذلك، فالميثولوجيا القديمة استندت على فكر وأدوات تناسب زمانها، أما الآن فنحن في زمن معاصر، ولدينا مشاكلنا وأدواتنا، ولدينا الميثولوجيا الخاصة بنا، وكيف ننظر لسنوات قادمة، وكيف يمكن لنا أن نعكس الحاضر لتكريسه للمستقبل بوصف ذلك ظاهرة أو توقعات، فالفنان دائماً باستطاعته أن يتوقع ويستشرف المستقبل.
خصوصية الكروم والحديد وتعاكسهما
يتابع مصطفى علي عن مستقبل النحت الحديدي: أقول لك ما يحصل، فنحن في كل فترة نمر بتجارب جديدة، هذه التجارب تحتاج لتقديم المادة المناسبة، ولذلك حالياً المعدن ظاهرة بدأت تتكرس في نتاج الفنانين. بالنسبة لي فلدي تجربة سابقة بتنفيذ أعمال نحتية من المعدن تعود لأعوام 1994 و1995، وهي أعمال كبيرة من الحديد، كذلك سبق ونفذت عملاً كبيراً في أولمبياد البحر المتوسط بمدينة (باري) الإيطالية، بلغت مساحته 18متراً مربعاً، وهو رمز لبوابة سوريا من البرونز، كذلك سبق ونفذت في عام 2008 عملاً ضخماً، وحصلت من خلاله على جائزة دولية بمعهد العالم العربي بباريس بمساحة 36 متراً مربعاً من الحديد المسبوك، يتموضع حالياً على سطح مبنى المعهد.
الآن أستخدم الكروم في أعمالي النحتية، وقد أنجزت مؤخراً منحوتة ضخمة لحصان عربي أصيل، والحصان هنا بحجم مرّة ونصف من حجم الحصان الطبيعي، مبنيي بطريقة صفائح الكروم المقطّع المجزأ، وتقوم فكرته أن يوضع بميدان الخيل بـ(دبي)، أخذ العمل مني ستة أشهر، كله من مادة الكروم من الداخل والخارج، ويعكس الضوء، وللهواء دور فيه من خلال الفراغات، فهناك تبادل ما بين الفراغ والمادة الكثيفة. كذلك أنجزت مؤخراً عملاً آخر لي أسميته (العودة للحياة)، يبلغ طوله خمسة أمتار لرجل ينطلق بقوة الصاروخ نحو المستقبل، لقد مر العمل بمراحل كثيرة، إذ بنيته في سنتين، وهو مؤطر ببرزخ، ليخرج من هذا الفراغ بمدلول رمزي، واعتمدت له إطاراً على شكل مربع فراغي بثلاثة مربعات يمر منها، والإطار من الحديد أو الكروم، وقد اقتناه متحف (نابو) في لبنان، حيث يعرض في حديقة المتحف.
من النحاتين المتميزين في عالم النحت الحديدي هناك السعودي (صدّيق واصل) الذي طوّع الحديد فقدّمه للجمهور حنوناً رشيقاً بأسلوبه وفلسفته الخاصة. وهو ينتمي إلى ما بعد الحداثة في النحت والتشكيل، وإلى (فن المينيمال) أو الفن الجديد. وتعود تجربته في النحت الحديدي إلى أوائل تسعينات القرن العشرين المنصرم، وما زالت مستمرة بزخم كبير حتى اليوم. وعن تجربة النحات واصل يقول الناقد الفني السعودي الدكتور سامي جريدي: «فنان متجدد بأفكاره وفنّه، يجبرك في كل عمل فني يقدمه على الدهشة والتأمل فيما أبدع. فالفنان واصل استخدم خامة الحديد عنصراً رئيساً، وهو معدن صعب المراس، يريد صبراً كبيراً، وخبرة طويلة لكسر عنفوان الحديد وجبروته. من التفسير الأزلي للوجود تبرز هوية الأفكار الأولى التي أراد لها الفنان أن تكون ميداناً للسؤال عبر خريطة الرؤى المستقبلية والمشاريع الإبداعية التي تتيح للفنان خصوصية العمل الفني، وبخاصة إذا كانت الخامة ذات إشكال فلسفية من الأساس كخامة الحديد، في زمن الحيرة الكبرى يكتوي الفنان بنار الحديد وشماً على جسده، معلناً خضوعه الأبدي لشهوة الفن، تلك اللذة والألم، فهو من اكتوى بحقيقة نار الحديد وتفكيك الخامات وتطويعها ضمن منظومة معينة يرى من خلالها أحاسيسه ومشاعره وفلسفته للحياة المعاصرة».
الحديد وفلسفة الحذاء
(صفاء الست) من أبرز النحاتات العربيات اللواتي اعتمدن الحديد فقط في إنجاز أعمالهن النحتية، فقدمت أشكالاً غريبة لأحذية عملاقة بمدلولات فلسفية رمزية.
تقول صفاء: للحديد جمالياته والمستقبل له، وبخاصة عندما يتموضع في مكانه الصحيح والمعبر. وترى صفاء أن النحت يستوعب في موضوعاته الكثير من المفردات والمعطيات والتفاصيل. و(الحديد) مادة مغرية جداً لأي نحات، ومادة طيّعة تتضمن أفكاراً لا تنتهي، وهو المادة الوحيدة التي يمكننا أن ننفذ من خلالها أعمالاً تركيبية، ومعظم منحوتاتي تركيبية.
لقد قدمت أعمالاً ضخمة من الحديد، يزيد ارتفاعها عن المترين والنصف، وكانت لأشكال بشرية، حيث حضرت الأنثى بقوة فيها، وبشكل رمزي.
وفيما بعد قدمت الأحذية النسائية العملاقة، فمن وجهة نظري أن الحذاء مهم جداً في الحياة للمرأة والرجل، ومنحوتاتي خصصتها للحذاء ذي الكعب العالي، لأنني شخصياً أحبه كثيراً، وله فلسفة خاصة لدي، حيث أعتبره امتداداً للجسم، كما أنه يغير من طريقة سير المرأة، حيث يساعد الكعب العالي على سير المرأة بشكل أجمل، وبثقة أكبر، ويكون لديها نقطة ارتكاز، ولك أن تتخيل أن هذه النقطة حاملة لكل هذا الجسم البشري! فهو برأيي اختراع مذهل، وحتى في علم النفس يُقال ظهور الكعب العالي في الأحلام له تفسير معين، ومنذ اختراعه من قبل الإنسان يتطور باستمرار، ويأخذ حيّزاً واسعاً من اهتمامات الإنسان.
إن كل حذاء أنجزته له قصة وحكاية، فمثلاً الحذاء الذي يحوي جنازير يدل على كيف أن المرأة قد تكون مسجونة داخل حذائها، إذ يشعر المشاهد لهذا الحذاء أنه (سادي)! هناك حذاء آخر يتضمن وروداً ونباتات، وهو سلس وناعم وشفاف، وهذا له علاقة بالطبيعة أكثر من المرأة. وهناك نموذج لالتصاق المرأة بحذائها، وأنها تحولت لكعب في حذائها. هناك منحوتة حذاء يحتوي مشدات ومشابك، وهذا يدل على القفز والحرية والرشاقة. وهناك حذاء على شكل (سمكة)، وهو يدل على أن المرأة عندما تنتعل كعباً عالياً تصبح مشيتها رشيقة جداً وتسير مثل السمكة.
هذه المنحوتات الجديدة بفكرتها ومادتها لها دلالتها وفلسفتها عند صفاء، فهي تشعر هنا أن المرأة عندما تدخل لمنزلها وتخلع حذاءها، حيث يتناسب وقوف الحذاء على الأرض مع مزاج المرأة، فإذا كانت غاضبة نلاحظ أن كل فردة من حذائها مرمية في اتجاه مختلف وبطريقة متباينة، أما إذا كانت سعيدة وقادمة مثلاً من سهرة جميلة نشاهد أن الحذاء يتموضع على الأرض بعد خلعه من رجلها بشكل متناسق، كونها تخلعه بهدوء. ولذلك تؤكد صفاء في هذه التجربة أن للحذاء إسقاطات نفسية واسعة جداً.
ذو صلة