خلف الجنون الظاهري والذي يلامس العبثية، هنا نتعرف على فنان بصري ومغني راب إستوني خطف الأنظار في أوروبا بنقده اللاذع لأساليب الحياة والثقافة الغربية.. إنه توماس تاميميتس الشهير بـ(تومي كاش) 33Tommy Cach عاماً الذي يبدو للوهلة الأولى شبيهاً بجنون سلفادور دالي وعمق آندي وارهول وخيال هاروكي موراكامي.. إنه مزيج من كل هؤلاء ببصمة خاصة.
قبل أسابيع قليلة وجدت ابنتي (ليلى) 9 سنوات تتابع أغنية ساخرة (إسبريسو ماكياتو) والتي يؤديها كاش برقصة تعكس عصر التسارع الزمني، لأجد بعض المشاهير في اليونان يقومون بأداء فيديوهات قصيرة على نفس الأغنية وإذا بي أتتبعها لأجدها مثلت إستونيا في مهرجان الموسيقى الأوروبية المهم (يوروفيجين) لهذا العام.
حققت الأغنية ملايين المشاهدات حول العالم وأثارت غضب الإيطاليين حيث اعتبروها تسخر من الثقافة الإيطالية، إلا أن الأغنية المرحة تلفت الانتباه لخطورة هذا العصر على الإنسان وما آلت إليه حياة البشر. ينتقد كاش نمط الحياة المتسارع واللامبالاة بحياة الآخرين والرغبة في التباهي بالأموال، الإدمان على التبغ واحتساء القهوة السريعة بأسعار باهظة وعلامات تجارية على الأكواب وكأنها تحدد هويتك وطبقتك الاجتماعية.
وحسب كلمات الأغنية فلا وقت لديه ولا وقت للحديث وأيامه مزدحمة.. (الحياة قد تعطيك ليموناً حينما ترقص مع الشياطين.. لا توتر لا توتر ولا حاجة للاكتئاب) كل ما عليك أن تتصرف بطريقة شريرة وخاطئة لتواكب العصر وسوف تكافئك الحياة. (الحياة مثل الإسباجيتي صعبة حتى تفعلها وتحقق النجاح)، كان العرض الاستعراضي الذي قدمه كاش على مسرح (يوروفيجين) سريالياً بامتياز سواء في الموسيقى التي تبدأ كلاسيكية ثم تتحول لتكنو وبوب، مروراً بأزياء العرض إذ يرتدي كاش ربطة عنق طويلة جداً تصل للركبة، ويمسك بكوب قهوة معوج ويغني ويرتشف القهوة ويحيط به عدد من الحراس الخاصين (بادي جارد) يقدمون له القهوة باستمرار، ويقومون بكل ما هو مهين لهم حتى الركوع على الأرض لهذا الرجل الثري تارة يدهس أحدهم بقدمه كسلم وتارة يمتطي أحدهم، في الخلفية الجرافيكية للعرض طائرة خاصة عليها اسم تومي كاش وعلامة الدولار بعد ذلك تصعد إحدى الفتيات المشاركات في العرض والتي تؤدي دور معجبة Fan مهووسة بكاش وهنا يسخر كاش من هذا الهوس بالفنانين بين الشباب والمراهقين.
إن أسلوب تومي كاش مثير للتأمل والإعجاب والاشمئزاز في بعض الأحيان، فهذا الأسلوب المستند إلى السريالية ولغته البصرية التي تنتمي لما بعد الحقبة السوفيتية، تلك الفترة التي تحول فيها الفنانون نحو الحرية الفنية والتجريب، وتخلوا عن القيود الصارمة لـ(الواقعية الاشتراكية)، لتبني اتجاهات حديثة وغربية مثل ما بعد الحداثة وفن الأداء، مع استمرار التمرد والبحث عن معنى الماضي والحاضر المعقد والمستقبل.
لفتني أسلوبه واستعاراته الرمزية التي تشبه كثيراً فنان البوب آرت الأمريكي الكبير آندي وارهول (1928-1987م) الذي يعتبر أبا الفن الشعبي في القرن العشرين، واستلهم موضوعات مثل: الاستهلاك، وثقافة المشاهير وتسليع الفن والثقافة، وقام بإعادة إنتاج الصور بشكل آلي، وهو ما كان بمثابة تحدٍ للمفاهيم التقليدية للفن. وكما ظهر وارهول لينتقد الحداثة عبر المنتجات الاستهلاكية، ظهر كاش لينتقد مظاهر الحياة في القرن الحادي والعشرين ومظاهر ما بعد الحداثة.
حينما ننظر لسياق أعمال كاش، سنجد أنه فنان مفاهيمي ويستخدم أسلوب (البوب آرت) بطريقته الخاصة مثلاً: في عروضه الحية في الشارع، فقد تجده فجأة في صالة المطار أوفي أحد عروض الأزياء العالمية بين الجمهور مرتدياً زياً من التريكو ويبدو منهمكاً في حياكة منسوجة من التريكو، وتارة حاصلاً على غفوة مرتدياً لحافاً قطنياً ويغط في نوم عميق بينما تمر العارضات بأزياء متنوعة.. أو ربما تجده في أحد الميادين الأوروبية الشهيرة مرتدياً منضدة وحولها مأكولات ومشروبات أو في زي مهرج أو مصور باباراتزي ليثير بداخلك تساؤلات حول جدوى ما يهتم به رجال الأموال وأصحاب رؤوس الأموال في العالم!
حقق كاش جماهيرية واسعة عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي، وفي أغنياته المصورة بأسلوب (الفيديو كليب) والتي انطلقت منذ عام 2018م يستوحي مشاهد سريالية بتوظيف تقنيات الجرافيكس فتجد إنساناً بثلاث عيون أو فتاتين في جسد واحد وغيرهما من الرؤى التي تبدو مستوحاة من عالم الأحلام والهلاوس، ويصمم كاش أزياء تعكس رؤيته النقدية الساخرة كذلك يطور أنماطاً موسيقية تحقق هدفه وتكرس لفلسفته.
في أغنية أخرى بعنوان (متحد) united ينتقد تومي كاش بشكل لاذع القوى العظمى في العالم والتي تدعي تكريس السلام ووقف الحروب مرتدياً زياً واقياً من الأسلحة النووية ساخراً من كل الرموز السياسية والرموز الدينية المسيحية وحالة التخبط العالمية. كما ينتقد نفسه بأنه ليس مغنياً لذا اتجه للراب ويتمنى لو أنه كان من ذوي البشرة الملونة! يسخر تومي كاش من نمط الحياة السريع الذي يكرس الأغنياء ويزيد من ثرواتهم بينما يزداد الفقراء فقراً، ويسخر من تنميط الأجساد وربط الجمال بمعايير محددة وينتقد انتشار الإباحية والترويج لها وثقافة الوجبات السريعة.. يسخر تومي من كل هذا بأسلوب لاذع وصادم للمجتمعات الغربية.
وفي عدد كبير من أغنياته على مدار حوالي 10 سنوات يبدو مشروعه الفني جلياً فهو يحارب التحيزات والتمييز الجنسي وينتقد الهوس بصورة الجسد في الغرب، يدعو للعودة للطبيعة والعودة للجذور والشعور بالإيجابية والمرح والتفاؤل.
يمثل تومي كاش ظاهرة فنية متكاملة وشاملة فهو إلى جانب أغانيه يقدم أعمالاً فنية ويشارك في معارض منها معرض باريس الدولي عام 2022م حيث قدم منحوتة (نوكيراشكا) برأس تحيط به سحابة نووية عملاقة، وهي شخصية كارتونية روسية شهيرة تعتبر رديفة (ميكي ماوس) الأمريكي، ومنحوتات عديدة تتسم بالجرأة وتثير صدمة ما في المتلقي وفي أحيان أخرى تحنو عليه وتسعى لدمجه وإعادته لعالم الطفولة والبراءة تماماً كما فعل في معرضه (دعوة للعب) حيث قدم مجسمات لحيوانات ودببة وفراء ليرتديها زوار المعرض ويشاركون في ألعاب طفولية جذابة.
يمكن القول إن كاش ينتقد الخطاب الثقافي السائد ساخراً من التقدم البشري، نشأته الفقيرة وجذوره المتشعبة بين الأستونية والروسية والأوكرانية (أب روسي وأم أوكرانية) شكلت ميله نحو ثقافة أوروبا الشرقية، وتأثره الواضح بموسيقى الجرونج والبانك يبدو متجلياً بدمجهما مع الموسيقى الإلكترونية والتكنو وأسلوب الراب الغنائي الأمريكي.
في لقاءاته التلفزيونية يسخر تومي كاش من الفنانين الذين يحرصون على وجود الحرس الخاص معهم في كل مكان فهو يمشط شعره ليظهر بمظهر لائق أمام الجمهور ليأخذ الحارس الشخصي منه الفرشاة ويمشط شعره أو يمنع المعجبات من الرقص معه ثم يرقص الحارس معهم.
ما يميز تومي كاش أنه لا يدعي العمق في تناول القضايا الوجودية العالمية الحالية والتي تزجنا فيها الرأسمالية الليبرالية نحو الجنون في كل شيء لكنه يبسط الأمور من منظور فني وساخر من كل ما يتحكم فيه رأس المال ولكن بعيداً عن المنحى الماركسي، متبعاً إستراتيجية ثورية ناعمة ومستفزة -في كثير من الأحيان- يبدو لي من خلال تحليلي لأعماله كفنان مستاء من أوضاع الفن والموضة والسينما والتلفزيون والإعلانات والشركات العابرة للقارات.
وصل تومي إلى مئات الملايين حول العالم بأسلوبه البصري المميز وصوره العبثية وحسه الفكاهي والأداء الصادق. لتتجاوز أعماله الصدمة والسخرية والكوميديا وتمتد لتشمل أسس الثقافة البصرية المعاصرة وتأثيراتها على حياتنا ونمطها.
يعرف الفنان المفاهيمي تومي كاش بولعه بالفوضى وتخطي الحدود وهو أمر متوقع من فنان يمر بمرحلة الثلاثينيات من عمره وهي مرحلة التساؤلات الكبرى والتأملات كذلك. يستخدم تومي وسائط متنوعة، تشمل الموسيقى والفيديو والتركيبات الفوتوغرافية والنحت والرسم والأزياء الجاهزة والبضائع.
يلعب كاش مع أيقونات الثقافة الشعبية والرموز وصورته الجسدية الخاصة. غالباً ما تكون اللغة البصرية الغنية والملونة التي تجري في أعمال كاش إذ يلعب الصوت والإضاءة دوراً أساسياً في عروضه الفنية كما أقام معرضه المشترك مع مصمم الأزياء الشهير ريك أوينز (الطاهر والملعون) في متحف كومو للفنون، تالين (2019م) وتعاون مع دور أزياء وعلامات تجارية كبرى، منها: Maison Martin Margiela، balenciaga وAdidas وIKEA
باختصار، هو حالة ثورية فنية جديدة وشخص استثنائي علينا أن نتابع مشروعاته الفنية المقبلة، فقد استطاع أن يصنع من نفسه علامة مميزة ربما يذكره تاريخ الفن كمجدد للسريالية في عالم الحداثة السائلة!