مجلة شهرية - العدد (587)  | أغسطس 2025 م- صفر 1447 هـ

الأكثر تأثيراً.. الأكثر تداولاً وتلقياً.. طريق الشاعر نحو استلهام الموروث الشعري

بعيداً عن كل ما يُقال في الشعر حول المحاورة النصية أو الاستدعاء النصي أو التناص بشكل عام، وكذلك المعارضات الشعرية وعن قَصْديَّة المحاورة أو المعارضة، إنَّ ديوان الشعر العربي على مر العصور الأدبية -منذ أول قصيدة وحتى آخر ما كُتب من شعر في أيامنا- لا يعدم الاتصال على المستويين الموضوعي والشكلي أو (البنائي) بين بعض القصائد، ويستوي في ذلك الاتصال في زمن أو عصرٍ واحد أو عبر أزمان وعصور مختلفة.
وقد جاء الشاعرُ العربي بوصفه مُتلقياً -في المقام الأول- مدفوعاً باتجاه شعراء بأعينهم، يَفْضُلهم عن بعضهم شيءٌ يقبع في بؤرة اهتمامه. كذلك فقد تكون هناك قصائد بعينها تمتاز بمثل هذا الشيء، فتأخذ مساحة عريضة من قلب الشاعر (المتلقي) وعقله، والكلام نفسه ينسحب على أبيات دون غيرها قد تكون من قصيدة بعينها، إذ يروق لبعض الشعراء أن ينسجوا على منوالها، مستلهمين إِيَّاها ملتمسين فيها قرباً ودفئاً لم يحسّوهما في غيرها، وإن لم يكن ذلك بقصد المعارضة.
إنَّ هذا الشيء الذي يأخذ الشاعرَ (المتلقي) -وتتمتع به قصيدة دون غيرها أو أبيات دون غيرها أو يُوجد عند شاعر دون غيره- لا يكون مقصوداً أو معدّاً له في الغالب، فالأمر هنا يختلف كثيراً عن الكتابة الشعرية التي نلجأ إليها بقصد المعارضة، هذا الفن الموروث الذي بدأت بوادره في العصر الجاهلي وتأسس في العصر الأُموي واستوى فناً أصيلاً في العصر العباسي حتى وقتنا هذا. فالمعارضةُ الشعرية قائمة على القصدية من قِبَل الشاعر، غير أن القصائد أو الأبيات التي تفرض نفسها على الشاعر (المتلقي) تغاير المعارضة لا سيما في ما تمتلكه من إثارة قوية متحققة، فهي تدفع الشاعر (المتلقي) إلى استلهامها أو استجلابها في النص الجديد بأي أداة من الأدوات الفنية أو بأي آلية.
وقد يكون هناك بيت شعري واحد، ربما ترك أثراً كبيراً لدى متلقيه من الشعراء، حتى صار أيقونة يتخذها بعضهم متكأً، فيأتي هذا البيت حمالاً لأفكارهم ومعبراً عن قضاياهم مختزلاً كثيراً مما يودون أن يقولوه.
ويرصد ديوان الشعر العربي عدداً كبيراً من الأبيات المفردة (لم تكن مطالع قصائد في الأغلب)، ولكنها جاءت أكثر تداولاً، وقاد الشاعرَ (المتلقي) إلى الإعجاب بها بعضُ ما اجتمع لها من عوامل جذب وجدانية وفنية، ما جعلها أولاً ذائعة الشهرة وسمح لها أن تجثم على صدور كل العصور، فذهب إليها بعض الشعراء ليؤسسوا عليها أو يكملوا بها تجاربهم.
وقد ورثنا عن الشعراء العرب كثيراً من القصائد الشهيرة والتي اكتسبت مسمياتها من المواقف أو الملابسات التي تحيط بها، ودفعت بعض أبياتها الشعراء إلى محاكاتها أو التأسيس عليها لا بقصد المعارضة، على نحو قول النابغة الذبياني (... - 18 ق.ه)، من قصيدته (المتجردة):
سَقَطَ النَصيفُ وَلَم تُرِد إِسقاطَهُ
فَتَناوَلَتْهُ وَاتَّقَتنا بِاليَدِ
بِمُخَضَّبٍ رَخصٍ كَأَنَّ بَنانَهُ
عَنَمٌ يَكادُ مِنَ اللَّطافَةِ يُعقَدُ
نَظَرَتْ إِلَيكَ بِحاجَةٍ لَم تَقضِها
نَظَرَ السَّقِيمِ إِلى وُجوهِ العُوَّدِ
وعلى الرغم من شهرة هذه القصيدة وذيوعها بين المهتمين من الشعراء وغيرهم من المتلقين، فما زالت تلك الأبيات السابقة هي الأكثر تداولاً والأكثر استلهاماً واستدعاء، وربما فاقت شهرتها شهرة مطلعها:
أَمِن آلِ مَيَّةَ رائِحٌ أَو مُغتَدِ
عَجْلانَ ذا زادٍ وَغَيرَ مُزَوَّدِ
أَفِدَ التَرَحُّلُ غَيرَ أَنَّ رِكابَنا
لَمّا تَزُلْ بِرِحالِنا وَكَأَنْ قَدِ
ومن القصائد الملهمات على مستوى (الشكل أو البناء) أيضاً، قصيدة (المؤنسة)، لقيس بن الملوح (24 – 68هـ) فقد لجأ كثير من الشعراء إلى استدعائها في الإطار الشكلي (الموسيقا والقافية)، وفي كثير من المضامين المتباينة بعيداً عن مضمونها الأساسي:
تَذَكَّرتُ لَيلى وَالسِنينَ الخَوالِيا
وَأَيّامَ لا نَخشى عَلى اللَهوِ ناهِيا
وَيَومٍ كَظِلِّ الرُمحِ قَصَّرتُ ظِلَّه
بِلَيلى فَلَهّاني وَما كُنتُ لاهِيا
ومنها أيضاً قصيدة (اليتيمة)، وهي على الرغم من الاختلاف حول نسبتها، فقد أكدت معظم المصادر والبحوث نسبتها إلى شاعرها المعروف بـ(دوقلة المنبجي)، والتي مطلعها:
هَلْ بالطُّلولِ لِسائلٍ رَدُّ
أَم هَلْ لَها بِتَكَلُّمٍ عَهدُ
دَرَس الجَديدُ، جَديدُ مَعهَدها
فَكأنَّما هيَ رَيطةٌ جَردُ
وهي على الرغم من شهرتها كقصيدة في مجملها، فقد برز من بين أبياتها أبيات دون غيرها، ولعل أشهر من مطلعها قوله:
فالوجهُ مثلُ الصبح مُبيضٌ
والشعرُ مثلُ الليل مسودُّ
ضدّانِ لما استجمعا حَسُنا
والضدُّ يُظهر حُسنَهُ الضِدُّ
كذلك من القصائد الملهمات أيضاً على سبيل المثال، قصيدة مالك بن الريب (17 – 57هـ)، الشهيرة التي مطلعها:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بجنب الغضا أزجي القلاص النواجيا
فليت الغضا لم يقطع الركب عرضه
وليت الغضا ماشى الركاب لياليا
وجاءت معظم أبيات هذه القصيدة ضمن أكثر الأبيات تداولاً سواء على مستوى الشكل أو على مستوى المضمون، وهي موجوده على رأس كل العصور الأدبية استلهاماً واستدعاءً.
ويتصدر أبو تمام والبحتري والمتنبي قائمة شعراء العصر العباسي فيما وُرث عنهم من قصائد نالت قسطاً كبيراً من التداول، على مستوى (التلقي) الجماهيري عامة والشعراء خاصة، فعلى سبيل المثال لا الحصر، جاءت بعض قصائد أبي تمام (188 – 231هـ)، أكثر ذيوعاً، لا سيما أبيات منها قد مثَّلت مصدر إلهام لكثير من الشعراء اللاحقين، من ذلك قوله:
وإذَا أرادَ الله نَشرَ فَضيلةٍ
طُويَتْ أتاحَ لها لسانَ حَسُودِ
لولا اشتعالُ النارِ فيما جاوَرَتْ
ما كان يُعرف طيبُ عَرْف العودِ
وقوله:
لا تُنكري عَطَلَ الكريمِ من الغِنَى
فالسيلُ حربٌ للمَكانِ العالي
وتَنظَّري خَبَبَ الركابِ يَنُصُّهَا
مُحْيي القريضِ إلى مُميتِ المالِ
وربما نال البيتان السابقان شهرةً وصارا أكثر تداولاً عن القصيدة كلها، بل عن مطلعها:
كُفّي وَغاكِ فَإِنَّني لَكِ قالي
لَيسَت هَوادي عَزمَتي بِتَوالي
ومن متداول شعره أيضاً قوله، وقد جاء أكثر إلهاماً للشعراء:
نَقِّل فؤادَك حَيثُ شئتَ مِن الْهَوى
مَا الحبُ إلا للحَبيبِ الأَوّلِ
كَمْ منزلٍ في الأرضِ يألفُهُ الْفَتَى
وحَنينُه أبداً لأَوّلِ مَنزلِ
وهما من قصيدة قصيرة، لم تتجاوز (أربعة أبيات)، وقد نالا من التداول والشهرة ما لم ينله البيتان اللذان سبقاهما، وهما قوله:
البَينُ جَرَّعَني نَقيعَ الحَنظَلِ
وَالبَينُ أَثكَلَني وَإِن لَم أثكَلِ
ما حَسرَتي أَنْ كِدتُ أَقضي إِنَّما
حَسَراتُ نَفسي أَنَّني لَم أَفعَلِ
ولعل قصيدته التي مطلعها:
السَّيفُ أَصدَقُ أَنباءً مِنَ الكُتُبِ
في حَدِّهِ الحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَّعِبِ
بيضُ الصَّفَائِحِ لا سُودُ الصَّحَائِفِ في
مُتُونِهِنَّ جلاءُ الشكِّ والرِّيَبِ
كانت أكثر تداولاً وتلقياً لدى كثيرين من الشعراء قديماً وحديثاً، وصارت بؤرة نصية ودلالية في كثير من قصائد الشعر المعاصر.
وكذلك الحال تتصدر بعض أبيات البحتري (204 – 280هـ) قائمة التلقي، ومنها على سبيل المثال، قوله:
أتَاكَ الرَّبِيعُ الطَّلْقُ يَخْتَالُ ضَاحِكاً
منَ الحُسْنِ حَتَّى كَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَا
وقد أخذ هذا البيت من التداول والشهرة ما لم يأخذه مثلاً مطلع القصيدة، وكان قد قالها البحتري في مدح الهيثم بن عثمان الغنوي، ومطلعها:
أكَانَ الصِّبا إلاّ خَيالاً مُسَلِّماً
أقَامَ كَرَجْعِ الطّرْفِ، ثمّ تَصَرَّمَا
بينما يتصدر مطلع سينيَّته الشهيرة:
صُنتُ نَفسي عَمّا يُدَنِّسُ نَفسي
وَتَرَفَّعتُ عَن جَدا كُلِّ جِبسِ
قائمة التلقي لا سيما في شعرنا المعاصر. وأيضاً من متداول شعره قصيدته التي قالها في وصف (بركة المتوكل)، ومن أشهر ما تداول منها قوله:
كأنَّما الفِضَّةُ البَيْضَاءُ سَائِلَةً
مِنَ السَّبَائِكِ تَجْرِي فِي مَجَارِيهَا
أما المتنبي (303 – 354هـ)، فلا يختلف اثنان في كل العصور على أنه كان صاحب النصيب الأوفر في التداول والتلقي، حيث وقع المتنبي في كثير من القلوب والعقول سواء لكونه شخصية عربية مهمة وشائكة ومثيرة للجدل في الوقت نفسه أو من خلال وقع قصائده في النفوس. فهو على مستوى الشخصية قد تم استدعاؤه كثيراً بوصفه رمزاً عربياً أصيلاً حكيماً شامخاً وشجاعاً ومتمرداً وغاضباً أو مغضوباً عليه، في كثير من إهداءات الشعراء قصائدهم أومن خلال تصديرات دواوينهم أو من خلال ذكره صراحة في متن القصيدة بوصفه شخصية تراثية لها أثرها الممتد عبر الأزمنة، لتكون مفتاحاً لقراءة أو بؤرة دلالية في القصيدة، وأما على مستوى (شعره) فكثير من قصائد المتنبي وأبياته جاءت مصدراً لإلهام كثير من الشعراء. ومن تلك القصائد المُلْهِمَات عند المتنبي، وهي كثيرة، قصيدته الأكثر شهرة وذيوعاً:
عيدٌ بأيَّة حالٍ عُدتَ يا عيدُ
بِمَامضَى أَمْ لأمرٍ فيكَ تجديدُ
وتمتاز هذه القصيدة خاصة بأن كثيراً من أبياتها يحفظه المتلقي العادي، كما أن كثيرين من الشعراء قد راقت لهم بعض أبياتها، فاتخذوا منها أساساً بنوا عليه أو اختتموا بها أو ضمنوا شعرهم شيئاً منها، على نحو قوله:
لا تَشْتَرِ الْعَبْدَ إِلاَّ والْعَصَا مَعَهُ
إِنَّ العبيدَ لأَنْجَاسٌ مَنَاكِيدُ
ومن قصائده الرائجة أو المتداولة أيضاً، قصيدته التي قالها في مدح سيف الدولة الحمداني، بمناسبة بنائه قلعة الحدث، وقد اشتهرت بمطلعها:
عَلَى قَدْرِ أَهْلِ الْعَزْمِ تَأْتِي الْعَزَائِمُ
وَتَأْتِي عَلَى قَدْرِ الْكِرَامِ الْمَكَارِمُ
ومن أبياته الشهيرة أيضاً، التي قالها في صباه ونالت شهرة واستدعاء كبيرين، قوله:
أَرَقٌ عَلى أَرَقٍ وَمِثْلِيَ يَأْرَقُ
وَجَوىً يَزيدُ وَعَبْرَةٌ تَتَرَقْرَقُ‏
وهكذا يتصدر بيتاه:
ذُو العقلِ يَشْقَى فِي النَّعيمِ بِعَقْلِهِ
وَأَخُو الْجَهَالَةِ فِي الشَّقَاوَةِ يَنْعَمُ
وَمِنَ الْبَلِيَّةِ عَذْلُ مَن لا يَرْعَوِي
عَنْ جَهْلِهِ وَخِطَابُ مَن لا يَفْهَمُ
قائمة التداول والاستلهام في شعرنا المعاصر
لقد بلغتْ شخصية المتنبي في زمانه، ما يؤهلها لأَنْ تظل حديثاً لا ينتهي، وعالماً لا يختفي. وهكذا لا يزال المتنبي بما أُوتي من تفرد وخصوصية يبعث في شعرنا المعاصر جدةً وبريقاً، بما يمدُّ به ديواننا من تعبئة نفسية ووجدانية وذاتية تراها في نحو قوله:
الْخَيْلُ واللَّيلُ والْبَيْدَاءُ تَعْرِفُنِي
والسّيفُ والرُّمحُ والقِرْطَاسُ والْقَلَمُ
أو قوله:
لا خيْلَ عِنْدَكَ تُهْديهَا وَلا مَالُ
فَلْيُسْعِدِ النُّطْقُ إِنْ لمْ تُسْعِدِ الْحَالُ
ومن شعره أيضاً الأكثر تداولاً وتلقياً، قوله:
عِشْ عزيزاً أو مُتْ وأَنْتَ كريمٌ
بَيْنَ طَعْنِ القَنَا وَخَفْقِ البُنُودِ
وقوله:
وإذا أتَتْكَ مَذَمّتي من نَاقِصٍ
فَهيَ الشّهادَةُ لي بأنّي كامِلُ
مَنْ لي بفَهْمِ أُهَيْلِ عَصْرٍ يَدّعي
أنْ يَحْسُبَ الهِنديَّ فيهِمْ باقِلُ
ولا شك تبقى الكلمات الأكثر تأثيراً هي الأكثر حضوراً والأكثر تلقياً واستلهاماً واستدعاءً، والقائمة من موروثنا الشعري جِدُّ طويلة، ظلّ بعضها حتى الآن وجهةً يلجأ إليها العامة للاستشهاد من خلالها على بعض المواقف، أو يستدعي الخاصةُ من الخطباء والمتحدثين منها ما يناسب خطبهم وأحاديثهم النثرية، إضافةً إلى أن مِن الشعراء قديماً وحديثاً مَن اتخذوا منها مدخلاً ومنطلقاً أو جسراً دلالياً، يعبرون من خلاله إلى عالم جديد لا ينفك تربطه بالماضي روابط عميقة، أو يتخذون منها بؤراً نصية، يستدعيها كل من أراد أن يُحمِّلها بعضاً من شؤونه أو حياته بشكل إيجابي أوسلبي.

ذو صلة