تعد رواية شارع الأعشى للروائية (بدرية البشر) صورة عن الحياة اليومية لأفراد عائلات بسيطة، يعيشون في حي هادئ يختلط فيه الواقع بالخيال، مع بنات يحلمن بالحب، ولكل بنت بيئتها المؤثرة على مسار حياة، تبدأ كما هي الحال مع عواطف التي تلعب دورها الممثلة (آلاء سالم)، والجازي التي تلعب دورها الممثلة (أميرة الشريف) ومفارقات القدر بينهما. وتسلط الضوء على تفاصيل صغيرة في حياتهم تشكل الذاكرة الجماعية للأجيال في السبعينات. لكن ما يجعل هذا العمل مميزاً ليس فقط كونه يعكس ببراعة صورة من صور الحياة الاجتماعية والثقافية آنذاك؛ بل في قدرة الكاتب على المزج بين الخيال الواقعي وأحلام الشخصيات التي تبحث عن عالم آخر أكثر استقراراً ومفعماً بالأمن والسعادة والحب. وهذا ما أوقعهن في مرارة الواقع بعيداً عن فضاء أوسع من محدودية المكان الذي يعشن فيه. فالرواية تم تحويلها إلى مسلسل تلفزيوني من إخراج أحمد كاتيكسز، الذي استطاع أن يترجم الرواية إخراجياً بأسلوب سردي بصري زاد من قيمة النص الأدبي جمالية درامية.
أما المقارنة بين الكتابة الأدبية والصيغة المرئية، فهي مهمة؛ لفهم كيفية تأثر الأحداث والنصوص بالتحول من الورق إلى الشاشة. فهل الواقعية السحرية والتفاصيل اليومية في الرواية هي سبب نجاح المسلسل؟ أم أن تصورات العيش في شارع الأعشى أكسبته مرونة درامية جاذبة؟ فهل يمكن اعتبار شارع الأعشى رمزاً نسوياً أضيف له واقعية سحرية لشخصيات تتمتع بالمرونة في مواجهة ظروف حياتية إنسانية، كمشكلة البنات مع بعضهن عندما زادت غيرة الجازي وتشاجرت مع عواطف أمام الجيران؟ فبعض الحقائق مثل قمع المرأة وارتفاع التيارات الدينية المتمثلة بزوج عواطف تصبح مقلقة. فهل واقعية المسلسل أن كل تفصيل فيه قد حدث في حيوات شخوصه؟ وهل توازى المخرج مع الكاتبة في هذا العمل الجذاب جداً في كل تفاصيله حتى الموسيقى؟
يبدأ المشهد بتقليدها للفنانة (سعاد حسني) بجمالية فطرية وعفوية، مما يعكس عن كثب الصراع الداخلي للطفلة عواطف التي تعيش في عالم يبدو محدوداً، لكنها تجد فيه الكثير من المتعة والأحلام. كما يصور المخرج لحظات روتينية بذكاء شديد، كما في اللحظة التي تتابع فيها العائلة المسلسل على شاشة التلفزيون الملوّنة لأول مرة. إن ما يجعل هذا الموقف محورياً هو توقيته، فالتلفزيون الملوّن يمثل لحظة التغيير والتحول في حياة الشخصيات. كما أن استعمال نكهة المشهد القديم يظهر رمزية الانتقال إلى عالم أكبر من حياة الشخصيات، حيث تصبح الألوان رمزاً للأمل والدهشة. رغم مصاعب بعض الحكايات كما هي الحال مع عطوة البنت التي تنكرت بثياب رجل وعاشت مآسٍ سببها زوج أمها وقساوة قلبه، وأيضاً وضحا الأم التي تبيع في السوق وتربي الأبناء بقوة تمتلكها امرأة بلا سند في مجتمع يجتاح سمعة المرأة بسرعة. فما يميز هذا العمل هو قدرته الفائقة على بناء شخصيات تتأرجح بين التعقيد والبساطة، وجعل كل تفصيل صغير يساهم في تقديمها بشكل ينبض بالحياة. التفاعل بين الشخصيات، وخصوصاً بين مزنة وعواطف وعطوة التي تخفي كينونتها وعزيزة والجازي وبقية الأفراد من الذكور مثل سعد وضاري وفواز وراشد ورياض وأحمد الذي يقوم بدوره يوسف عمر؛ يُعتبر الإطار الذي يحدد علاقتهم جيراناً في شارع واحد وأسرة كبيرة بينهم الاختلاف والائتلاف، ويخلق ذلك جواً من الانتماء العاطفي، حيث يتداخل الماضي مع الحاضر، وتنعكس الأحاديث العائلية البسيطة في أبعاد أكبر سلبية وإيجابية، كما حدث مع مزنة، وهي تقرر الهرب مع من أحبته حين رفض أهلها تزويجها له لأنه ليس من عشيرتها، والكثير من القصص الأخرى التي تتعلق بالصراع الداخلي والتطلعات البعيدة في تحقيق الأحلام.
تشتبك المشاهد في سرد متقن بين الحياة اليومية للشخصيات والتفاصيل الصغيرة التي تمنح الشخصيات بُعداً إنسانياً حقيقياً، كما نرى في المشهد الذي يصور التفاعل بين الأم وأطفالها في المنزل بعد صلاة العشاء، أو في اللحظات التي تعكس أحلام الفتيات في الحي الضيق. تعبيرات مثل (نحدق في عالم التلفزيون الجديد) و(ما أجمل الألوان) تبرز تضاريس هذا العالم الصغير الذي يبتكره الكاتب والمخرج معاً ليظل محفوراً في ذاكرة القارئ والمشاهد. فماذا عن خلط الألوان مع بعضها في الغسيل لتخرج الأم ويتسنى للبنت رؤية سعد في الحلقة الثانية؟
المسلسل يحمل نفس العنوان شارع الأعشى، إذ يعكس المخرج ما بين النص الأدبي والمرئيات على الشاشة مشاهد الحياة اليومية. الحوارات بين الشخصيات تتخذ طابعاً درامياً مناسباً لتفاعل الشخصيات مع الأحداث، حيث يُجسد الممثلون المشاعر الداخلية للنص الأدبي من خلال تعبيراتهم الجسدية وصوتهم. كما تظهر الشخصية الرئيسة عزيزة، التي تحمل حلماً مستمراً بالعالم الخارجي، وهو حلم يعكس رغبتها في التحرر من محيطها المحدود أو التطلع لمعنى الحب في الأغاني والأفلام. هل يتحقق؟ إذ تظهر مشاعر هذه الشخصية المتمردة عبر صور متشابكة تعكس تأثير التلفزيون والأفلام المصرية وحتى أغاني الكاسيت، مما يعزز التباين بين الواقع المألوف والخوف من المجهول الذي يمثله العالم الخارجي. هذا التوازن بين ما هو ملموس وما هو خيالي يعزز من مصداقية الشخصية وجاذبيتها، مما يتيح للمشاهدين التفاعل معها على مستوى عاطفي عميق.
لكن التحدي الأكبر في العمل الدرامي هو تحويل (الزمن) الذي يسرده النص الأدبي، الذي غالباً ما يعبر عن اللحظات الساكنة والتأملية، إلى حركة حيوية على الشاشة. في حين أن الرواية تركز على التفاصيل الدقيقة والذكريات التي تبرز من خلال النظرات والتأملات، يتعين على المسلسل أن يبني تلك اللحظات ببراعة ليكون قادراً على تقديم التجربة الشخصية بصدق وواقعية. على سبيل المثال، مشهد استقبال التلفزيون الملوّن يعد لحظة محورية في النص الأدبي، حيث تخلق رؤية التلفزيون الجديد بُعداً من الإبهار، ولكن في التلفزيون تحتاج الكاميرا إلى نقل هذا التأثير بشكل مرئي، من خلال تصوير الألوان بشكل حيوي وتفاعل الشخصيات معها. وقد نجح المخرج (أحمد كاتيكسز) في هذا وكأن السرد التصويري لا يقل أهمية عن السرد الروائي. فماذا عن التشويق والتوتر في النص الأدبي والتلفزيون؟
بينما تنساب الرواية بتدفق وتدريجية في تقديم المشاعر والتفاعلات الصغيرة بين الشخصيات، نجد أن المسلسل يضطر في بعض الأحيان إلى تكثيف تلك المشاعر لتحقيق سرعة الإيقاع الدرامي. فالمسلسل يتطلب في كثير من الأحيان وجود عنصر التشويق والتوتر، مما يفرض على المخرج أن يسرّع بعض الأحداث أو يحوّر التفاصيل لتناسب السرد الإخراجي الجميل الذي أتقنه المخرج، خصوصاً مع تصوير التشدد الديني الذي دخله زوج مزنة التي تلعب دورها الممثلة (مها الغزال) وحبيب عواطف السابق مع جماعات متشددة.
كما أن التحوّل الدرامي الذي يطرأ على الشخصيات ببعضها في الرواية يعكس طبيعة العلاقات الإنسانية في الواقع المشحون بتشابك العلاقات، حيث تعكس الحلقات في كثير من الأحيان معاناة الشخصيات التي تفتقر إلى الفرص الكبيرة، مثل عزيزة التي تحلم بالحياة الجامعية بينما تقتصر آفاقها على وظائف متواضعة. بينما في المسلسل، تُظهِر المونتاجات السريعة والشخصيات المتحركة التوترات النفسية التي تخلقها تلك الظروف، وبالتالي نرى المشاهد تتنقل بين الهمسات الصغيرة للآمال والأحلام لتختمر في تفاعلات أكبر على الشاشة.
الواقع الاجتماعي الذي يصفه النص الأدبي في حياة العائلة، بخلاف المكان الذي يعيشون فيه والظروف التي تحيط بهم؛ يُترجم بشكل مذهل في المسلسل إلى مشهد مرئي ينقل المشاهدين إلى البيئة نفسها. في المسلسل، يكون المكان شديد الإضاءة، الألوان الزاهية والتفاصيل الدقيقة، التي تنقله من عالم نصي إلى آخر مرئي، وبذلك يصبح الجمهور جزءاً من المكان الذي تسكن فيه الشخصيات.
لكن على الرغم من دقة التصوير، تظل الرواية في النهاية أداة أقوى في توفير عمق العواطف والتفاصيل الصغيرة التي يمكن أن يغفل عنها المشاهد في العمل الدرامي. ففي الرواية، حيث تتحدث الشخصيات عن (تخيل الشاطئ) و(الحياة الأخرى)، يتمكن القارئ من الغوص أعمق في الخيال الداخلي، بينما المسلسل يظل في حدود القدرة على نقل الإحساس البصري للخيال.
يظهر العمل الأدبي والمسلسل المأخوذ عنه في تآلف عميق بين الواقعية السحرية والتجربة الإنسانية البسيطة. الرواية تتيح للقارئ أن يسبح في بحر من التأملات والذكريات، حيث تُنسج المشاعر عبر النظرات والتفاصيل الصغيرة، بينما يقدم المسلسل رؤية مرئية تجسد الشخصيات والأماكن على الشاشة، مما يساهم في إثراء التصور العام للمشاهد. قد يكون من الصعب على المسلسل أن يعيد خلق تفاصيل الرواية الأدبية بكل دقة، إلا أنه، من خلال التحول من النص إلى الصورة؛ أتاح للجمهور فرصة لإعادة اكتشاف ذلك العالم الدافئ والمليء بالأحلام، وهو ما نجح فيه بشكل كبير. بل جعل القارئ شغوفاً لقراءة الرواية مرة ثانية.
من خلال الجمع بين عناصر الحياة اليومية، الأحلام الشخصية، والعلاقات الإنسانية التي تقبع خلف هذه الحياة؛ استطاع المسلسل أن يقدم تجربة مرئية تلامس المشاعر وتثير الذكريات، بينما تُبقي الرواية نفسها التي كتبتها بدرية البشر مكانتها الأدبية كونها أداة أعمق للتفكير والتأمل في كل جملة كُتبت فيها، والمسلسل الذي أخرجه أحمد كاتيكسز بأسلوب إخراج ممتع مع طاقم من الممثلين الذين لكل منهم مقدرته في جعلنا نعيش معهم أمتع اللحظات الدرامية.