إن المتتبع لمراحل تطور البحث التاريخي في الوطن العربي سيقف على القفزة الكبيرة التي شهدها هذا الميدان، وذلك منذ النصف الثاني من القرن الماضي، سواء على مستوى الإشكاليات المطروحة، أو على مستوى تعميق النظرة في المواضيع المطروقة، مستفيداً من تراكم وثائق ومصادر جديدة كشفت عنها مجموعة من الدارسين العرب، والذين بدورهم تأثروا بأفكار رواد مدارس تاريخية عالمية مرموقة، وبخاصة مدرسة الحوليات الفرنسية التي كان لها الفضل في تحويل اهتمام المؤرخين من التاريخ الحدثي السياسي والعسكري إلى التاريخ الاقتصادي والاجتماعي والذهني، ومن تاريخ السلاطين والملوك إلى تاريخ المهمشين، الشيء الذي جعل ثلة من المؤرخين العرب ينقلون التجربة الأوروبية إلى أوطانهم، وكان من أبرزهم الأستاذ والمؤرخ المغربي (إبراهيم القادري بُوتْشِيشْ)، المولود يوم 20 يناير 1955م في شرق المغرب، من أسرة شريفة النسب، حظيت بمكانة علمية وثقافية مرموقة، ما جعله يظهر تفوقاً منذ بداية مراحله التعليمية، إذ كان دائماً يحتل المرتبة الأولى بين أقرانه من التلاميذ، وقد ظهر نبوغه المعرفي أولاً في الشعر والقصة، بيد إن عشقه للتاريخ جعله يواصل دراساته الجامعية في هذا التخصص، حيث تمكن من نيل شهادة الإجازة من كلية الآداب والعلوم الإنسانية -ظهر المهراز- في مدينة فاس سنة (1977م).
وفي ذات الكلية حصل على دبلوم الدراسات العليا المعمقة في التاريخ الإسلامي الوسيط عام (1984م)، في موضوع: (أثر الإقطاع في تاريخ الأندلس السياسي من منتصف القرن الثالث الهجري حتى ظهور الخلافة)، تحت إشراف العلامة الدكتور المصري (عبدالرزاق محمود إسماعيل)، وكانت هذه الرسالة قد خلفت جدلاً واسعاً في الوسط الأكاديمي، وشكلت تحولاً عميقاً في تطور الكتابة التاريخية حول الأندلس، وتاريخها الاقتصادي، وهذا التوجه الجديد هو الذي نادت به مدرسة الحوليات طيلة القرن الماضي.
وفي سنة (1991م) سيقتحم إبراهيم القادري بوتشيش ميدان التاريخ الاجتماعي من أبوابه الواسعة، حين ناقش أطروحته لنيل شهادة دكتوراه الدولة في التاريخ الوسيط بجامعة المولى إسماعيل بمدينة مكناس، تحت عنوان: (الحياة الاجتماعية في المغرب والأندلس خلال عصر المرابطين)، وهي الأطروحة التي اعتبرت نقطة تأسيس للتاريخ الاجتماعي بالغرب الإسلامي، وبداية مشروع إعادة كتابة التاريخ، حيث أنها فتحت آفاقاً جديدة أمام الباحثين من المغرب وخارجه، لتعميق البحث في مختلف التيمات الاجتماعية التي طرحها صاحب الأطروحة، خصوصاً فيما يتعلق بتاريخ الفئات المهمشة، بعد أن كشف عن نصوص مخطوطة جديدة حول تاريخ المغرب الأندلس، كما اعتمد في هذه الأطروحة على مجموعة من العلوم المجاورة والمكملة لعلم التاريخ كالأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع واللسانيات.
وبالموازاة مع ذلك فقد ساهم التكوين العلمي المتين للأستاذ إبراهيم القادري بوتشيش في أن يتقلد عدة مناصب ومهام بارزة، حيث أنه اشتغل في البداية أستاذاً لمادة التاريخ والجغرافيا بالسلك الثانوي، وفي سنة (1983م) التحق لتدريس التاريخ الإسلامي الوسيط بجامعة المولى إسماعيل بمكناس لمدة تفوق الثلاثين سنة، واشتغل أيضاً أستاذاً زائراً في جامعة السلطان قابوس بسلطنة عمان وجامعة صنعاء، والجامعة التونسية، وأيضاً أستاذاً محاضراً في بعض الجامعات الفرنسية والألمانية والإسبانية وفي المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وبذلك لقبه أقرانه بسفير المؤرخين العرب.
كما حصل على صفة عضو في عدة جمعيات ومؤسسات علمية، كجمعية أساتذة التاريخ والجغرافيا بمكناس، وهيئة تحرير مجلة (مكناسة) الصادرة عن كلية الآداب بمكناس، وجمعية الباحثين في الغرب الإسلامي، والجمعية المغربية للبحث التاريخي، والجمعية الأفريقية لدراسات تاريخ الأديان، وهو أيضاً مستشار في جمعية المؤرخين المغاربة، والمجموعة المغاربية للدراسات التاريخية والأثرية والحضارات المقارنة.
وتمكن في سنة (1999م) من تأسيس وحدة التكوين والبحث في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للغرب الإسلامي بكلية الآداب بمكناس، التي شكلت بامتياز اللمسة الأولى لمشروع بناء مدرسة جديدة في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي والذهني، تَمَكَّنَ من خلالها من تخريج باحثين متميزين، وتكوين جيل جديد أصبح الآن يحتل مكانة رائدة في الإنتاج التاريخي، ويشكل الآن أطراً متميزة في الجامعات المغربية.
أما في مجال البحث الأكاديمي والمشاركة في الندوات والمؤتمرات الوطنية والدولية، فالأستاذ الفاضل شارك في أزيد من سبعين لقاء علمياً على المستوى المحلي، وأزيد من الثمانين على الصعيد العربي والإسلامي، وحوالي الأربعين على المستوى الأوروبي والأمريكي، مكنته من زيارة مختلف حواضر العالم، التي تأتّى له من خلالها أن يُعرف بواقع البحث التاريخي المغربي، ومشروعه العلمي الجديد المتمثل في إعادة كتابة التاريخ من الأسفل، وذلك بالتركيز على دراسة الطبقات الشعبية ومعتقداتهم وسلوكاتهم وحياتهم اليومية.. بعيداً عن أمور الحكام وما يحيط بهم من أمور سياسية وإدارية وعسكرية.
وعلى مستوى التأليف والنشر فقد أغنى الأستاذ إبراهيم القادري بوتشيش الخزانة العربية بكم هائل من الدراسات التاريخية المفيدة، انصبت مجملها حول تاريخ المغرب والأندلس خلال العصر الوسيط، وقد جاءت عبارة عن كتب منفردة وكتب جماعية (أزيد من العشرين)، ومقالات منشورة في دوريات ومجلات علمية محكمة، سواء منها الورقية أو الإلكترونية (ما يربو عن المئتين)، دون الحديث عن القراءات والتقارير والمحاضرات والبرامج الإذاعية والتلفزية.
ومن أبرز إصداراته نذكر: (المهمشون في تاريخ الغرب الإسلامي.. إشكاليات نظرية وتطبيقية في التاريخ المنظور إليه من أسفل)، (إسهامات في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي لمدينة مكناس خلال العصر الوسيط)، (خطاب العدالة في كتب الآداب السلطانية)، (مباحث في التاريخ الاجتماعي للمغرب والأندلس خلال عصر المرابطين)، (تاريخ الغرب الإسلامي.. قراءات جديدة في بعض قضايا المجتمع والحضارة)، (إضاءات حول تراث الغرب الإسلامي وتاريخه الاقتصادي والاجتماعي)، (مستقبل الكتابة التاريخية في عصر العولمة والإنترنت)..
وقد توج الدكتور إبراهيم القادري بوتشيش مسار حياته العلمية، بحصوله بجدارة واستحقاق على جوائز علمية دولية، وشواهد تقديرية، منحت له من قبل جامعات ومؤسسات عالمية بارزة، نذكر منها: جائزة رجل سنة (2003م) في أمريكا، وجائزة (الكتاب العماني) (2004م)، و(الجائزة الدولية لأبحاث السلام) التي منحتها له مؤسسة المؤتمر الثقافي الموحد في الولايات المتحدة الأمريكية سنة (2005م)، و(جائزة نعمان للثقافة) في لبنان (2008م)، و(الجائزة العربية للعلوم الاجتماعية والإنسانية) الممنوحة من طرف المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة عام (2015م)، و(جائزة المقريزي) لأفضل الأبحاث التاريخية المنشورة بدورية (كان) التاريخية سنة (2021م).. ناهيك عن الدروع والأوسمة العلمية التي وشّح بها صدره في مناسبات عديدة، كان آخرها الوسام الملكي للاستحقاق من الدرجة الأولى الذي حصل عليه سنة (2018م).
وختاماً يمكن القول بأن مسار الأستاذ إبراهيم القادري بوتشيش العلمي الحافل بالعطاءات والإنجازات، جعله يتبوأ مكانة متميزة في ميدان البحث التاريخي، بل لا يزال هذا الرجل شغوفاً بالمزيد من الإسهامات رغم حصوله على تقاعده المهني.