مجلة شهرية - العدد (586)  | يوليو 2025 م- محرم 1447 هـ

تعزيز الإبداع البشري بالذكاء الاصطناعي

أثار إدخال الآلات الحاسبة في التعليم خلال سبعينات القرن الماضي جدلاً واسعاً حول العالم ارتكز أساساً على المخاوف من أن استخدامها قد يُضعف المهارات الرياضية للطلبة، إذ يمكن أن يؤدي الاعتماد على الآلات الحاسبة إلى إضعاف قدرة الطلاب على إجراء العمليات الحسابية يدوياً ويشتت انتباههم عن استيعاب المفاهيم الرياضية الأساسية. وظهر الرفض الشعبي لهذه الثقافة الجديدة في عناوين وسائل الإعلام حول العالم، مثل «إساءة استخدام الآلات الحاسبة في المدارس»، مقال في جريدة النيويورك تايمز بتاريخ 24 ديسمبر 1975، الذي أظهر مخاوف من تراجع المعايير التعليمية. ومع ذلك، ومع مرور الوقت، بدأت الأبحاث العلمية تُبدّد هذه المخاوف، مُبيّنةً أن دمج الآلات الحاسبة بعناية في المناهج الدراسية، ساهم في تعزيز تعليم الرياضيات من خلال تعزيز مهارات حل المشكلات وزيادة الثقة الرياضية التي كانت متزعزعة عند بعض الطلبة بسبب الخوف من الخطأ في الحساب.
فعلى سبيل المثال، وبعد مرور 10 سنوات على المقالة آنفة الذكر أشارت دراسة هيمبري وديسارت (1986)، إلى أن مستخدمي الآلات الحاسبة غالباً ما كانوا يحققون أداءً أفضل دون التأثير سلباً على مهارات الحساب الأساسية. وقد عد المجلس الوطني الأمريكي لمعلمي الرياضيات الآلات الحاسبة كأدوات أساسية لحل المسائل المعقدة، بينما أظهرت بعض الاختبارات المعيارية في مختلف أنحاء العالم درجات أعلى بين مستخدمي الآلات الحاسبة. وقد أدى هذا التحول إلى التركيز على أساليب التدريس الأكثر أهمية من مجرد الحساب مثل التطبيقات العملية، والتفكير النقدي، ومهارات التفكير العليا، ما أدى في نهاية المطاف إلى إعداد الطلاب لمجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات الحديثة، مما يدل على أنه بدلاً من أن تُضعف التعلم، قامت الآلات الحاسبة بتعزيز التجربة التعليمية وتوأمتها بشكل أفضل مع الواقع التكنولوجي.
واليوم وبعد الظهور المفاجئ والكبير للذكاء الاصطناعي يعيد التاريخ نفسه وبجدلية تكاد تكون مماثلة حول مستقبل الذكاء الاصطناعي في صناعة المحتوى الثقافي والفكري والإعلامي وآثاره على جودة المحتوى، وإضعاف المهارات البحثية والكتابية، وحقوق الملكية الفكرية. وهو الذي أصبح يستخدم الحاسبات الأكثر تطوراً لاتخاذ القرار بدلاً عن الإنسان أو مساعدة له في اتخاذ أفضل قرار ممكن، أي أن الموضوع أصبح أكثر تعقيداً من مجرد القيام بعمليات حسابية بسيطة مع أن جوهر الذكاء الاصطناعي هو فعلاً القيام بعمليات حسابية لاتخاذ القرار المناسب. السؤال الذي يطرح هنا: هل يمكن استخدام هذا النوع من الذكاء لتعزيز الإبداع البشري؟
يعد الإبداع التجميعي أحد أنواع الإبداع، وهو الإبداع المعني بالقدرة على توليد أفكار أو حلول جديدة من خلال دمج المفاهيم أو العناصر أو المعارف القائمة بطرق مبتكرة. غالباً ما يتضمن هذا النوع من الإبداع جمع أفكار متباينة ودمجها لخلق شيء فريد. ويمكن ملاحظة ذلك في مجالات متنوعة، مثل الفن والعلوم والتكنولوجيا، حيث ينشأ الابتكار غالباً من اندماج تخصصات أو وجهات نظر مختلفة.
إن استخدام الذكاء الاصطناعي أصبح تقريباً يشمل جميع مناحي الحياة وقد وجد ليساعد الإنسان في حياته اليومية بغض النظر عن تخصصه أو عمله وليس ليحل محله. إن الذكاء الاصطناعي كأي تكنولوجيا جديدة يمكن اعتباره سلاحاً ذا حدين، إذا ما تم استخدامه من أجل الغرض السامي الذي وجد من أجله فقد يكون مفيداً جداً للبشرية.
إن الأنظمة الحاسوبية لا يمكن اعتبارها أنظمة ذكية إلا إذا كانت مدعمة بقاعدة بيانات مبنية على المعرفة الإنسانية الصحيحة المثبتة تسمى بقاعدة المعرفة والتي يستخدمها النظام الذكي لاستنتاج معرفة جديدة، فعلى سبيل المثال تم تدريب نظام الـ (DeepSeek) على 14.8 تريليون كلمة من الكتب والمجلات العلمية والمواقع الإلكترونية الموثوقة، وبالتالي استخدام مثل هذه الأنظمة ليس إلا عملية بحث تمت مسبقاً في العلوم والتجارب الإنسانية ولم تأت من فراغ بل هي إبداعات بشرية خالصة سابقة قدمت للحاسبات بعملية التعلم الآلي لتتحفظ وتستخدم لاحقاً بوجود بعض الأدوات المنطقية الاستنتاجية التي تستطيع تقديم المعرفة للسائل، وبالتالي يمكن ضمان تعزيز الإبداع التجميعي البشري باستخدام الذكاء الاصطناعي (بشري الأصل) مستفيدين من هذه التكنولوجيا ولكن كشريك معاون لإلهام الخيال البشري وصقله وتوسيع آفاقه. فبدلاً من أن تحل أدوات الذكاء الاصطناعي محل الإبداع البشري، فإنها يجب أن تعمل كمحفزات لتوليد الأفكار والتجريب وحل المشكلات.
على سبيل المثال، يمكن استخدام نماذج اللغات الضخمة مثل (DeepSeek)، و (ChatGPT) وغيرها الكثير من اقتراح نصوص أولية لقصة معينة تساعد العصف الذهني وتحفز الذاكرة للقاص المحترف وتؤدي إلى إنتاج قصة جديدة إبداعية وخارجة عن المألوف لا أقول أخذ القصة كما هي ولكن استخدامها لإلهام الكاتب وتحفيز أفكاره وخياله للخروج بمنتج جديد وملهم ومفيد دمج فيه إبداع الآلة - التي اطلعت على وثائق بالمليارات لا يمكن لبشر الاطلاع عليها أو قراءتها أو هضمها - مع الذكاء الفطري البشري للحصول على منتج حتماً سيكون فريداً من نوعه، ولا أخفيكم سراً أنني استخدمت الـ (DeepSeek) للحصول على أفكار أولية لكتابة هذه المقالة، أخذت بعضها والذي قمت بتأكيده من مصادر علمية رصينة وتركت الآخر، وذلك لأن جميع المصادر التي اقترحها هذا النظام كانت خاطئة. نعم يمكن أن يخطئ النظام الذكي تماماً كالبشر.
أيضاً في مجال إنتاج الرسوم والصور الرقمية هناك العديد من الأدوات الذكية التي يمكن أن تنتج نماذج أولية لتحفز إبداع الفنانين والمصممين وصانعي الأفلام، بل أصبحنا نرى مقاطع فيديو كاملة من إنتاج هذه الأدوات، وحتى هذه يمكن أن تكون مفيدة وجيدة لإثراء المعرفة والمحتوى بشرط إنشائها تحت رقابة الإنسان المتخصص وذلك للتأكد من جودة ومصداقية المحتوى بعد تصفيته وتصحيحه وتحقيقه للحصول على المنتج النهائي المفيد، حيث أظهرت دراسة ألمانية حديثة لسبستايان بوشيري وآخرين (2024) أن العصف الذهني بمساعدة الذكاء الاصطناعي أدى إلى زيادة تنوع الأفكار وأصالتها مقارنة بالجهود البشرية الفردية.
استخدام أدوات التحرير الذكية لتصحيح الأخطاء اللغوية والإملائية والترجمة من وإلى جميع لغات العالم المعروفة أدى إلى اختصار الزمن بشكل كبير جداً، فعلى سبيل المثال عند كتابة أي بحث علمي كان التدقيق اللغوي البشري يأخذ وقتاً طويلاً من أسبوع إلى شهر، أما باستخدام هذه الأدوات الذكية أصبح التدقيق يأخذ دقائق أو ساعات على أكثر تقدير وهذا أدى إلى زيادة الإنتاجية بشكل كبير جداً.
كما ويمكن أن يعزز الإبداع عند الجمع بين الحدس البشري والقدرة الحسابية للذكاء الاصطناعي وما يمتلك من قاعدة معرفية في مجالات كثيرة جداً، مثل استخدامه في اكتشاف الأدوية، حيث أصبح هذا المجال رائجاً في البحث العلمي وعند بعض شركات الأدوية لإنشاء هياكل جزيئية أولية لأدوية جديدة، مما يُسرّع البحث والتطوير في هذا المجال الحيوي. كذلك في تصميم الألعاب، والبرمجة حيث تساعد أدوات الذكاء الاصطناعي المطورين على تصميم نماذج أولية لبيئات الألعاب والبرمجيات والخوارزميات بكافة أنواعها. وأيضاً التعلم الإبداعي، حيث يمكن أن يُصمم الذكاء الاصطناعي تجارب التعلم بما يتناسب مع أنماط الإبداع الفردية، وميولهم وقدراتهم، ومن الأمثلة على ذلك استخدام أكاديمية خان الذكاء الاصطناعي لتوجيه المستخدمين خلال مشاريع فنية أو برمجية بناء على مستوى مهاراتهم.
بناء على ما سبق وما تم إثباته في أبحاث أخرى فإن الذكاء الاصطناعي مفيد جداً في تعزيز الإبداع وخصوصاً الإبداع التجميعي ولكن يجب استخدامه من أجل الغاية التي وجد من أجلها، أي كنقطة بداية للمشروع وليس كنهاية، وإعمال العقل البشري في مخرجاته لتحسينها وتصفيتها والتأكد أنها متوافقة مع الأخلاقيات الإنسانية والقوانين والأعراف المحلية وعدم ادعاء الملكية الفكرية لأي منتج إذا لم يكن هناك مساهمة حقيقية من المستخدم للذكاء الاصطناعي. وكما يقول الكاتب جايشري غوبتا إن الذكاء الاصطناعي ليس إلا مرآة تعكس الإبداع وتُعززه بطرق غير متوقعة، وليس ليحل محل خيالنا، بل ليذكرنا بإمكانياته اللامحدودة.

ذو صلة