مجلة شهرية - العدد (586)  | يوليو 2025 م- محرم 1447 هـ

لمن يُنسب المنتج الاصطناعي؟ لمن تُنسب الكلمة؟

يشهد عالم اليوم انفجاراً غير مسبوق في أدوات إنتاج المحتوى، بعد أن اقتحمت تقنيات الذكاء الاصطناعي المشهد بقوة، لتقدم قدرات مذهلة على توليد النصوص، وإنشاء الصور، وتحرير الفيديوهات، بل وحتى تقليد الأساليب الأدبية والفنية بدقة مدهشة. لم تعد هذه الإمكانيات محصورة في المختبرات التقنية، بل أصبحت جزءاً من أدوات الصحافة، والنشر، والتعليم، والإعلام. ومع هذا التوسّع، ظهرت تساؤلات جديدة تتجاوز حدود التكنولوجيا، إلى فضاءات أعمق ترتبط بالفكر والأخلاق والإبداع: إذا كانت الآلة تكتب وتُنتج، فمن يملك هذا المنتج؟ وهل يمكن أن يُنسب محتوى لا تملكه روح أو وعي بشري إلى آلة لا تشعر ولا تُدرك؟ تتقاطع هذه الأسئلة مع قضايا أعمق تتعلق بالهوية الفكرية، والملكية، والمسؤولية الأخلاقية، خصوصاً في ظل غياب (مرجعية شعورية) للآلة.
يسعى هذا المقال إلى تفكيك هذه الإشكالية من خلال تناول ثلاثة محاور أساسية: طبيعة الذكاء الاصطناعي، وأبعاده غير الواعية، ودور الإنسان في توجيه وصياغة المحتوى، وحدود العلاقة التكاملية بين الطرفين، لنصل في نهاية المطاف إلى الإجابة عن سؤال جوهري: المنتج الاصطناعي... لمن؟
ربما يكون أنسب تشبيه لحالة (المنتج الاصطناعي) هو طفل الأنابيب لتوضيح أصل المبدع في الذكاء الاصطناعي، فالمنتج الاصطناعي أشبه ما يكون بـ(طفل الأنابيب)، لا يُولد من فراغ، بل هو نتاج عناصر بشرية: فكرة، وبيانات، وتوجيه معرفي، مما يُؤكد أن الأصل الإبداعي دائماً إنساني. فالتشبيه لفهم العمق، فهذا الطفل لا يُخلق عشوائياً، بل من بويضة الأنثى البشرية، وحيوانه المنوي البشري كذلك، وكما أن طفل الأنابيب يولد من عناصر بشرية لكنه بحاجة لرعاية طبية ليكتمل، فإن المحتوى المُنتج بالذكاء الاصطناعي لا يُمكن أن يولد سليماً دون إشراف فكري، ومراجعة بشرية، وتوجيه أخلاقي واعٍ. هذا التشبيه يُعيدنا إلى الأساس: الذكاء الاصطناعي لا يخترع، بل يُركّب. لا يشعر، بل يحاكي. لا يملك هدفاً، بل يُنفّذ ما يُطلب منه بدقة حسابية خالية من الوعي أو الأخلاق.
إن الذكاء الاصطناعي يُنتج المحتوى بسرعة ودقة، لكنه يفتقر إلى النية والمعنى. فهو لا يعي ما يكتب، ولا يدرك أثر الكلمة أو سياقها الثقافي أو الأخلاقي. قد تولّد الخوارزمية مقالاً عن قضية حساسة دون فهم خلفياتها، أو تنتج نصاً متحيزاً دون قصد. وهنا تكمن المشكلة: الآلة لا تُحاسب، لأنها لا تملك وعياً أو ضميراً، ولذلك، فإن الاعتماد الكلي عليها في إنتاج المحتوى يُهدد المرجعية الأخلاقية، ويخلق نصوصاً قد تكون لغوياً سليمة، لكنها إنسانياً فارغة. فإن الذكاء الاصطناعي ليس كاتباً واعياً، بل أداة تحليل ضخمة تتغذى على المحتوى البشري الموجود مسبقاً. يَجمع، ويُركّب، ويُعيد الصياغة، لكن دون أن يعي ما يفعل. لا يميز بين ما يُناسب السياق، وما قد يُحرّض، أو يُضلّل، أو يُسيء. فقد تكتب الآلة نصاً دينياً أو سياسياً، لكنها تفعل ذلك دون شعور بمقدّس القول، ولا اعتبار لحساسية، ولا إدراك لتاريخ أو ثقافة. وهنا مكمن الخطر: فمن يتحمّل مسؤولية ما يُنتج؟ الآلة؟ أم المبرمج؟ أم المستخدم؟ فالآلة لها قدرة على توليد النصوص مع غياب النية وهذا ما يجعل من المحتوى الآلي (نصاً بلا ضمير)، وما يُفقده شرعية فكرية أو أدبية، ويضعنا أمام أزمة مرجعية تتجاوز التقنية إلى الأخلاق.
على الجهة الأخرى، الإنسان هو البوصلة الأخلاقية فالإنسان هو صاحب الفكرة، وهو من يحمل المرجعية والضمير. فالكتابة بالنسبة له ليست توليد كلمات، بل تعبير عن موقف، وتجسيد لتجربة، وبحث عن معنى حتى حين يستخدم الذكاء الاصطناعي، يبقى هو المسؤول عن اختياره، وتحريره، ونشره. ولهذا، فإن الدور البشري لا يجب أن يتراجع، بل أن يتعزز باستخدام الذكاء الاصطناعي، وهو وحده يُقدّم أداة قوية، لكنها بلا قيمة إن لم يُوجّهها عقل بشري، ويضع لها حدوداً أخلاقية، ويُحافظ على هويته داخلها.
فالعلاقة التكاملية، وهي علاقة تعاون لا استبدال، فالذكاء الاصطناعي ليس كائناً مبدعاً، بل أداة إنتاج ذكية. التعامل معه يجب أن يكون كعامل مُساعد، لا كبديل. حين يكتب الإنسان، يمكنه أن يستخدم الذكاء الاصطناعي لتسريع البحث، أو اقتراح أفكار، أو توليد صياغات أولية، لكنه يجب أن يبقى هو من يحرر ويُعدّل ويختار. فالشراكة الناجحة بين الإنسان والآلة قائمة على وعي الإنسان بما يريد، وبما لا يريد أن تسمح به الأداة. وإذا ضاعت هذه البوصلة، تحوّلت الأداة من وسيلة دعم إلى خطر على القيم والمعاني.
وفيما يخص الحقوق الفكرية: لمن تُنسب الكتابة؟ ومن يملك المحتوى الناتج عن الذكاء الاصطناعي؟ فالجواب لم يُحسم بعد قانونياً، لكن الوضوح يزداد مع قاعدة بسيطة، من لم يُشارك بفكر أو توجيه، لا يملك المحتوى. فإذا كان الإنسان هو من خطّط، ووجّه، وراجع، فإن الملكية الأخلاقية والفكرية تعود إليه. أما إذا كان المحتوى خرج آلياً بلا تدخل، فهنا يصبح مجرد (منتج تقني)، لا يُمكن اعتباره عملاً إبداعياً أصيلاً.
أما عن التهديد للمبدعين وهم أم واقع؟ يخاف بعض الكتّاب من أن تحل الآلة محلهم، لكن هذا الخوف في غير محله إذا وُجد الوعي. ومن يعتمد على الذكاء الاصطناعي دون تطوير ذاته، سيتراجع. أما من يُحسن استخدامه، ويضيف عليه، ويُبقي على صوته وهويته، فسيتفوّق. مثلما لم تُلغِ الكاميرا الرسّام، بل غيرت أدواته، فإن الذكاء الاصطناعي لن يُلغي الكاتب، بل سيُجبره على أن يكون أعمق، وأوعى، وأكثر تميّزاً.
والمطلوب اليوم هو بناء نموذج تعاوني بين الإنسان والذكاء الاصطناعي. نموذج لا يُقصي أحداً، ولا يُعظّم طرفاً على حساب الآخر. الإنسان هو القائد، والآلة هي أداة الدعم. مع هذا التوازن، يمكن أن ننتج محتوى أكثر شمولية، أكثر تنوعاً، وأكثر التزاماً بالقيم الإنسانية. لكن مع الوقت، ستتداخل الحدود. وهنا نحتاج إلى تشريعات تُلزم بالإفصاح عن استخدام الذكاء الاصطناعي، حمايةً لثقة القارئ، وحفاظاً على معنى الإبداع.
خلاصة الرؤية المنتج الاصطناعي ليس خطراً في حد ذاته، بل في طريقة استخدامه. الإنسان يظل في مركز العملية الإبداعية، والآلة تبقى أداة. وإذا أردنا مستقبلاً يُحترم فيه الإبداع وتُحفظ فيه المرجعيات الأخلاقية، فعلينا أن نُبقي لفظة (تشاركي) وهي المخرج لكل مبدع يستخدم الذكاء الاصطناعي بوصفها تقنية من تقنيات الإبداع في كتاباته.
وفي الختام المنتج الاصطناعي... لمن؟ المنتج الاصطناعي، رغم دقته وسرعته، يظل أشبه ما يكون بطفل الأنابيب، لا يولد من تلقاء نفسه، ولا ينشأ من فراغ، بل يتكوّن من مدخلات بشرية أساسية: فكرة من عقل إنسان، وبيانات من ذاكرة بشرية، وتوجيه أخلاقي من مبدع يدرك خطورة الكلمة وأثرها. وكما أن طفل الأنابيب يحتاج إلى رعاية دقيقة ليولد ويعيش، فإن المحتوى الناتج عن الذكاء الاصطناعي يحتاج إلى إشراف بشري، وصياغة واعية، ومراجعة تحمل المعنى والهوية.
هذا التشبيه يُبرز الحقيقة التي لا يجب أن تغيب: الآلة تكتب، لكنها لا تكتب إلا بما نعطيها. هي تنتج، لكنها لا تُبدع. إذاً، حين نسأل: (المنتج الاصطناعي... لمن؟) فالجواب واضح: لمن خطّط، ووجّه، وصاغ، وأدخل فيه روحه. الآلة لا تلد فكراً، بل الإنسان هو من يمنحها الحياة. فالمنتج الاصطناعي أشبه ما يكون بـ(طفل الأنابيب)، لا يُولد من فراغ، بل هو نتاج عناصر بشرية: فكرة، وبيانات، وتوجيه معرفي، مما يُؤكد أن الأصل الإبداعي دائماً إنساني.

ذو صلة