عند تحقيق أي مخطوطة من مخطوطات تراثنا الخالد يُعَدُّ البحث عن نسخ المخطوطة من الأمور البديهية، والأسس التي تساعد على إخراج المخطوطة بصورتها التي ارتضاها كاتبها. فتعدد النسخ يعطي المساحة للمحقق في عملية الفرز، واختيار النسخة الأقرب لنسخة المؤلف. فهناك نسخ تكون متأخرة في زمن نسخها عن النسخة الأصلية، ويُلاحظ عليها كثرة السقط والتصحيف، خلاف النسخ المخطوطة التي يكون زمنها قريباً من زمن المؤلف التي تقلُّ بها الأخطاء والتصحيفات.
وكتاب نهاية الأرب في معرفة قبائل العرب للأديب والعالم الكبير أحمد بن علي القلقشندي -توفي رحمه الله سنة 821هـ- أوضح مثال على ذلك، فعند دراسة الاختلاف بين نصوص مخطوطات الكتاب وبخاصة المخطوطات المتقدمة منها، وكان زمنها قريباً من زمن المؤلف، مع نصوص طبعات الكتاب التي حُقِّقَتْ على مخطوطات أخرى، لكنها تختلف عن المخطوطات السابقة بأنها متأخرة عن زمن المؤلف -حيث يعود زمن أقدمها إلى القرن العاشر الهجري- نجد أنَّ هناك نقصاً في المطبوع، وزيادات في المخطوطات المتقدمة.
وقد أشار إلى ذلك عدد من العلماء من أهل الاختصاص في المخطوطات، كعلّامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر -رحمه الله- عبر عدد من مقالاته التي تطرق فيها إلى طبعات هذا الكتاب.(1) وكذلك ما شرحه المؤرخ عبدالستار بن درويش الحسني -رحمه الله- عندما نقد إحدى مطبوعات الكتاب.(2)
وسبب هذا الاختلاف بين المطبوع والمخطوط المتقدم لكتاب نهاية الأرب هو اعتماد مُحقِّقي الكتاب طوال العقود الماضية على مخطوطات متأخرة عن زمن المؤلف، وليس على المخطوطات المعاصرة له.
ومن الأمثلة الدالة على ذلك ما كُتب عن نسب قبيلة حرب في كتاب نهاية الأرب، وهو مثالنا الذي نوضح به هذه المسألة.
نسب قبيلة حرب في الكتب المطبوعة:
في طبعة الكتاب (3) بتحقيق علي الخاقاني -رحمه الله- نجد الآتي عن نسب قبيلة حرب: «بطن من بني هلال بن عامر بن صعصعة. ذكرهم الحَمَداني وقال: منازلهم الحجاز، ولم ينسبهم في قبيلة. ثم قال: وهم ثلاثة بطون، بنو مسروح، بنو سالم، بنو عبدالله. قال: ومنهم زبيد الحجاز، وبنو عمرو».(4)
وهو مقارب للموجود في طبعة الكتاب التي كانت بتحقيق إبراهيم الأبياري -رحمه الله- حيث جاء فيه: «بنو حرب أيضاً: بطن من بني هلال بن عامر بن صعصعة. ذكرهم الحَمَداني وقال: منازلهم الحجاز، ولم ينسبهم في قبيلة. ثم قال: وهم ثلاثة بطون، بنو مسروح، بنو سالم، بنو عبدالله. قال: ومنهم زبيد الحجاز، وبنو عمرو».(5) يُفهم من نصوص الكتاب المطبوع: أن قبيلة حرب من بني هلال من قيس العدنانية، وذكرهم الحَمَداني -توفي رحمه الله في حدود عام 600هـ- لكنه لم ينسبهم في أي قبيلة. أي أن القلقشندي يرى أن قبيلة حرب الهلالية هي التي ذكرها الحَمَداني ولم ينسبها في قبيلة.
لكن عند مراجعة النسخ المتقدمة من مخطوطات الكتاب كنسخة المكتبة الوطنية الفرنسية التي كتبها ابن المؤلف سنة 841هـ،(6) ونسخة المكتبة السليمانية في تركيا،(7) وكذلك نسخة مكتبة الملك عبدالعزيز العامة،(8) والنسخة المحفوظة في مكتبة جامعة الأزهر،(9) سنجد أن النص مختلف تماماً!. حيث جاء النص في النسخ المخطوطة الأربع كما يلي: «بنو حرب أيضاً: بطن من بني هلال بن عامر بن صعصعة، ذكرهم ابن سعيد، وقال منازلهم الحجاز. وعامر يأتي نسبه عند ذكره في حرف العين المهملة. وبنو حرب أيضاً بطن من العرب، ذكرهم الحَمَداني في عرب الحجاز، ولم ينسبهم في قبيلة. ثم قال: وهم ثلاثة بطون، بنو مسروح، بنو سالم، بنو عبدالله. قال: ومنهم زبيد الحجاز، وبنو عمرو».
وبعد قراءة هذا النص يتضح أن القلقشندي ذكر أكثر من قبيلة تُدعى حرباً، والتي في الحجاز اثنتان: حرب التي ذكرها ابن سعيد ونسبها إلى بني هلال، وحرب التي ذكرها الحَمَداني وفصَّل في فروعها لكنه لم ينسبها في قبيلة. بينما النص الموجود في طبعات الكتاب نرى به دمجاً للنصين، قول ابن سعيد مع قول الحَمَداني، وظهر كأنه هو قول القلقشندي، بأن قبيلة حرب من بني هلال، بينما كان هذا قول ابن سعيد، والقلقشندي ناقل عنه، كنقله عن الحَمَداني.
وابن سعيد هو ابن سعيد المغربي –توفي رحمه الله سنة 685هـ– كان ينسب قبيلة حرب في كتبه المتقدمة إلى زبيد مذحج.(10) ويتضح لنا من ظاهر هذا النص أنه قد تراجع عن قول المذحجية، وأصبح ينسبهم إلى بني هلال، وهو القول الذي نقله عنه القلقشندي في كتابه صبح الأعشى،(11) حين قال: «ومن بني هلال حرب فيما ذكره ابن سعيد. قال الحَمَداني: وهم ثلاثة بطون: بنو مسروح، وبنو سالم، وبنو عبدالله. قال: ومساكنهم الحجاز ومن حرب زبيد الحجاز فيما ذكره الحَمَداني. وذكر أن منهم بني عمرو».
إذن اتضح لنا بعد الاطلاع على النص الذي في المخطوطات المتقدمة لكتاب نهاية الأرب أنه مطابق للنص الموجود في كتاب القلقشندي الثاني قلائد الجمان في التعريف بقبائل عرب الزمان، حيث لم يذكر فيه حرباً التي من بني هلال، وإنما اكتفى بنقل قول الحَمَداني نقلاً عن ابن فضل الله العُمَري. مع العلم أن كتاب نهاية الأرب قد وضعه القلقشندي لذكر القبائل القديمة والحديثة، بينما كتابه قلائد الجمان جعله في ذكر القبائل المعاصرة. يقول القلقشندي في كتابه قلائد الجمان: «وذكر في مسالك الأبصار في عرب الحجاز حرباً، ولم يعزهم إلى قبيلة، وثم قال: وهي ثلاثة بطون: بنو سالم، وبنو مسروح، وبنو عبدالله، ثم قال: ومنهم: زبيد الحجاز، وبنو عمرو، وهم من أكثر العرب عدداً وأقواهم رجلاً. ومساكن جميعهم الحجاز».(12)
وعليه، نخرج بنتيجة أن القلقشندي لم ينسب قبيلة حرب التي في الحجاز إلى بني هلال، وإنما نقل قولاً عن ابن سعيد المغربي عن قبيلة أخرى غير القبيلة التي تحدث عنها الحَمَداني، وعَدَّ حرباً الهلالية قبيلة قديمة اندثرت في عهده، لأنه عند حديثه عن قبيلة حرب في الحجاز في كتابه قلائد الجمان المخصص للقبائل التي في عصره اكتفى بنقل قول الحَمَداني فقط.
1 - انظر: أنساب القبائل دراستها ونشر أصولها، مجلة العرب، س1، ج2، شعبان 1386هـ تشرين الثاني 1966م.
2 - نظرات في نهاية الأرب للقلقشندي، مجلة البلاغ، سلسلة مقالات، أول مقال كان في العدد العاشر من السنة الخامسة 1395هـ، والمقال الأخير كان في العدد السادس من السنة السادسة 1396هـ، وقد جمعها الأستاذ محمد بن عبدالله آل رشيد في كتاب بعنوان المقالات، نشرته دار الفتح للدراسات والنشر.
3 - وهناك طبعة أخرى لكتاب نهاية الأرب، للأديب سليمان الدخيل، وهي التي اعتمدها الخاقاني في تحقيقه الكتاب.
4 - نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب، تحقيق علي الخاقاني، بغداد 1378هـ 1958م، ص216-217.
5 - نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب، تحقيق إبراهيم الأبياري، الطبعة الثانية، بيروت 1400هـ 1980م، ص232.
6 - الصورة المرفقة رقم 1.
7 - الصورة المرفقة رقم 2.
8 - الصورة المرفقة رقم 3.
9 - الصورة المرفقة رقم 4.
10 - نشوة الطرب في تاريخ جاهلية العرب، ص241.
11 - صبح الأعشى في صناعة الإنشا، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1407هـ 1987م، ج1، ص395.
12 - قلائد الجمان في التعريف بقبائل عرب الزمان، تحقيق إبراهيم الأبياري، دار الكتاب المصري، الطبعة الثانية، 1402هـ 1982م، ص90.