في حديث عن رواية العنقاء يتحدث الدكتور علي الراعي قائلاً: (غير أن رواية العنقاء تتحرك إلى جوار هذا المحور الأسطوري على محور آخر واقعي كل الواقعية، وهو المحور الذي يتم من خلاله وصف القاهرة ومثقفيها وعمالها ونسائها ومغانيها وشوارعها في ظروف منتصف الأربعينات، وقبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية، هنا نلتقي بشخصيات غنيّة في تنوعها وفي أفكارها، وفي استجاباتها للأحداث، فإلى جوار عايدة علم، ومونا ربيع، المحور النسائي، الذي يرفرف حوله قلب حسن مفتاح عاجزاً عن اتخاذ قرار بالتزوج من الأولى أو من الثانية؛ هناك شخصيات اللجنة المركزية الذين جعلوا مهمتهم الانقضاض على المجتمع الملكي المصري وتغييره بالقوة، فور أن ينظموا صفوفهم، ويحكموا خططهم، وفور أن تنتهي الحرب. إن العنقاء قراءة ممتعة، وهي تسجل أحداث فترة مهمة من أحداث التطور الاجتماعي والسياسي في مصر، تسجيلاً يبقى على الزمن) (دكتور علي الراعي، الرواية في الوطن العربي: العنقاء أو تاريخ حسن مفتاح، المجلس الأعلى للثقافة عام 2018 ص 64).
السيرة والمسيرة
ولد لويس حنّا خليل عوض يوم 5 يناير عام 1915 بقرية شارونة مركز مغاغة محافظة المنيا جنوبي القاهرة. كان والده يعمل موظفاً في حكومة السودان، ورجع الوالد مع زوجته إلى قرية شارونة، وتركها مع أمها حتى ولدت لويس، وبعد عدة أشهر عاد الوالد وسافر إلى السودان بصحبة زوجته وطفلها لويس، ظلّ لويس يعيش في مدينة الخرطوم حتى عمر خمس سنوات، وحدثت مشكلة بين والده ورئيسه الإنجليزي في العمل، فقدّم الوالد استقالته إلى حكومة الخرطوم ورجع مع أولاده واستأجر بيتاً في مدينة المنيا وعاش مع أولاده وزوجته. التحق لويس عوض بمدرسة المنيا الابتدائية عام 1921، وحصل منها على الشهادة الابتدائية عام 1928. كانت الدراسة بالمدارس الابتدائية آنذاك 7 سنوات، ثم التحق بمدرسة المنيا الثانوية عام 1928، وحصل منها على شهادة التوجيهية الثانوية العامة عام 1933، كانت الدراسة بالمدارس الثانوية آنذاك 5 سنوات. ثم سافر لويس عوض للقاهرة حتى يلتحق بقسم اللغة الإنجليزية كلية الآداب جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة) عام 1933، وحصل منها على ليسانس الآداب بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف عام 1937. عمل مدرساً مساعداً للأدب الإنجليزي عام 1940، وزكّاه أستاذه الدكتور طه حسين، ليحصل على منحة دراسية للسفر إلى لندن لدراسة الأدب الإنجليزي، لينال ماجستير الأدب الإنجليزي من جامعة كامبريدج عام 1943، ثم حصل على منحة دراسة ثانية للسفر إلى أمريكا، وحصل منها على درجة الدكتوراه، وكانت بعنوان: أسطورة برومثيوس في الأدبين الإنجليزي والفرنسي بجامعة برنستون بولاية نيوجرسي الأمريكية عام 1953. عاد إلى مصر، ليعمل أستاذاً مساعداً للأدب الإنجليزي بكلية الآداب جامعة القاهرة عام 1953، ثم رئيس قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب عام 1954. وقد أشرف على القسم الأدبي بجريدة الجمهورية من عام 1953، حتى عام 1961، ثم تولى الإشراف على القسم الأدبي بجريدة الأهرام من عام 1961 حتى عام 1981، وخاض معارك أدبية كثيرة، وبخاصة بعد صدور كتابه: مقدمة في فقه اللغة العربية، الذي تمّت مصادرته، وكان عضواً بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب حتى عام 1973. حاز جائزة الدولة التقديرية في الآداب من المجلس الأعلى للثقافة عام 1988. وبعد رحلة طويلة مع الكتابة توفي بالقاهرة يوم 9 سبتمبر عام 1990، عن عمر 75 عاماً.
المنجز الأدبي
أصدر الدكتور لويس عوض أكثر من خمسين كتاباً في الإبداع: شعراً ورواية ومسرحية، وفي الترجمة، وفي الدراسات الأدبية والنقدية: فن الشعر لهوراس عام 1945، بروميثيوس طليقاً لشيلي عام 1946، صورة دوريان جراي لأوسكار وايلد عام 1946، شبح كانترفيل لأوسكار وايلد عام 1946، بوتولاند وقصائد أخرى، ديوان شعر، عام 1947، في الأدب الإنجليزي الحديث عام 1950، خاب سعي العشاق لشكسبير عام 1960، دراسات في أدبنا المعاصر عام 1961، الراهب، مسرحية تاريخية، عام 1961، دراسات في النظم والمذاهب عام 1967، المؤثرات الأجنبية في الأدب العربي الحديث عام 1962، الاشتراكية والأدب عام 1963، الجامعة والمجتمع الجديد عام 1964، دراسات في النقد والأدب عام 1964، المسرح العالمي عام 1964، مذكرات طالب بعثة عام 1965، العنقاء أو تاريخ حسن مفتاح عام 1966، الثورة والأدب عام 1967، البحث عن شكسبير عام 1968، تاريخ الفكر المصري الحديث عام 1969، الحرية ونقد الحرية عام 1971، دراسات أوروبية عام 1971، رحلة الشرق والغرب عام 1972، ثقافتنا في مفترق الطرق عام 1974، أقنعة الناصرية السبعة عام 1976، لمصر والحرية عام 1977، مقدمة في فقه اللغة العربية عام 1980، ثورة الفكر في عصر النهضة الأوروبية عام 1987، أوراق العمر، سنوات التكوين عام 1989.
البناء الفنّي في رواية العنقاء
صدرت الطبعة الأولى من رواية العنقاء أو تاريخ حسن مفتاح عن دار الطليعة في بيروت عام 1966، وصدرت الطبعة الثانية عن مكتبة مدبولي بالقاهرة عام 1987، ثم صدرت الطبعة الثالثة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1990 - الطبعة محل الدراسة. وجاءت الرواية في 441 صفحة من القطع المتوسط و12 فصلاً، ومقدمة طويلة من ص 7 حتى ص 54، يشرح فيها دكتور لويس عوض قصة كتابة هذه الرواية، وقد انتهى من كتابة المقدمة بتاريخ 11 مارس عام 1966. وينهض البناء الفنّي في رواية العنقاء بتقنية الراوي العليم المهيمن على سرد الأحداث بالفعل الماضي: (بلغ حسن مفتاح كوبري الإنجليز قادماً من الجيزة، نحو الساعة الخامسة والنصف، وبدا له أن يتلكأ قليلاً بحكم عادته كلما مرّ من على الكوبري، ولكنّه عدل عن رغبته، وتابع السير، فقد كان بحاجة إلى السير، ورفع بصره إلى أشجار الجزيرة العالية، وإلى أبراج المعرض الزراعي، ثم غضّه فرأى ماء النيل، وشكره لكثرة ما به من طمي، ورأى بائع الغازوزة الثرثار، وبائع السجائر الكسلان، والسائل الأعور القذر) (مفتتح الفصل الأول من رواية العنقاء ص 55).
توظيف أسطورة طائر العنقاء
العنقاء طائر خيالي، طويل العنق، لهذا أطلق العرب عليه اسم العنقاء. وأسطورة العنقاء كما ذكرها المؤرخ هيرودوت: (عندما يشعر طائر العنقاء بقرب أجله، يطير لأعلى ناحية معبد إله الشمس، الإله رَعْ، في مدينة هليوبوليس بمصر، وفي هيكل الإله رَعْ يرفع طائر العنقاء جناحيه لأعلى ويُصفّق بجناحيه تصفيقاً عالياً، بينما يُردّد كهنة الهيكل نشيد الإله رَعْ: (المجد له في الهيكل، عندما ينهض من بيت النار، الآلهة كلها تحبّ أريجه عندما يقترب من بلاد العرب، هاهو يدنو بجماله اللامع من فينيقية محفوفاً بالآلهة)، ويظلّ طائر العنقاء يُصفّق بجناحيه تصفيقاً حاداً حتى يلتهب الجناحان فيبدوان وكأنّهما مروحة من نار، فتشتعل النار في الجناحين حتى يحترق ويصبح رماداً، ومن الرماد يولد طائر عنقاء جديد، ثم ينبت ريش للجناحين)، هذه قصة طائر العنقاء كما جاءت في الأساطير الفرعونية القديمة.
وقد وظّف دكتور لويس عوض أسطورة طائر العنقاء الذي يحترق، ثم يولد من جديد من رماد الحريق طائراً شاباً في الرواية، فبعد أن غرق حسن مفتاح في مياه بحر الإسكندرية، سافرت روح حسن مفتاح إلى قرية (دماريس) مسقط رأسه بمحافظة المنيا جنوب القاهرة، حتى تقتل روح حسن مفتاح ابن عمه سيد قنديل الفلاح القروي، الذي يشبهه كثيراً، وهو يسبح في مياه نهر النيل في المنيا، ويخرج حسن مفتاح من مياه نهر النيل في جسده الجديد، في جسد سيد قنديل: (فقد كانت روح حسن مفتاح وروح سيد قنديل تقتتلان تحت الماء، لتحل الأولى مكان الثانية، وأخيراً ارتفع رأس الغريق فوق سطح الماء وكان يلهث، وكان يضرب الماء بيديه عبثاً كأنّه لا يعرف السباحة) (رواية العنقاء ص 207).
هكذا حلّت روح حسن مفتاح في جسد سيد قنديل قبل انقضاء أربعين يوماً على وفاة حسن مفتاح، ورجع حسن مفتاح للقاهرة، لكن في ملابس وشكل الفلاح القروي سيد قنديل، ودخل بنسيون مدام ماريكا وقابلته الخادمة فهيمة فاغرة الفم، لأنها رأت حسن مفتاح في ملابس فلاح قروي حافي القدمين حليق شعر الرأس: (ودخل القروي الحافي وأغلق الباب في هدوء، وأجال بصره في جميع الغرف فلم يرَ من زجاج أبوابها نوراً، فاطمأنت نفسه، وأمسك بفهيمة من يدها وسار بها إلى المدخل الصغير، وهناك طمأنها قائلاً: إنّ جميع ملابسه قد سُرقت في الريف، فلم يبقِ له اللصوص على شيء حتى الحذاء، ثم أشار إلى رأسه العاري، وقال: إنّ أسبوعاً في الريف ملأ رأسه بالدمامل، فنصحه القرويون بحلق شعره حتى يبرأ من دمامله، أمّا عن شاربه فلم يُقدّم حسن مفتاح تفسيراً، ولكنه رجا فهيمة ألا تذكر لأحد شيئاً عمّا رأت، حتى لا تزعجه مدام ماريكا بالأسئلة، ووعدها ببقشيش طيب إنْ هي لزمت الصمت) (رواية العنقاء ص 239).
الصراع في رواية العنقاء
يدور الصراع في رواية العنقاء على عدّة محاور متشابكة:
أولاً: صراع حسن مفتاح وانقسام روحه بين عايدة علم التي يُحبها حباً شديداً، وبين مونا ربيع رغم أنّها متزوجة، لكنّها تتقرب من حسن مفتاح وترى فيه الخلاص من زوجها الذي يُقدّمها لأصحابه رجال الأعمال من أجل توقيع الصفقات التجارية، في البداية نعرف أنّ حسن مفتاح يُحب عايدة علم ولكنّه يقع في صراعه النفسي بين متطلبات القلب والجسد والزواج من عايدة علم، وبين التفرغ التام لمتطلبات أعضاء اللجنة المركزية، ويُقرّر أنّ الزواج من عايدة علم سيشغله ويُعطّله على العمل السياسي، بل قال إنّ عايدة علم أطيب البنات قلباً وأرقهن نفساً، وأنّ عايدة علم تستحق أن ترى سعادة وهناء، وأنّ حسن مفتاح كان يتمنى أنْ يكون هذا الرجل الذي يسبغ عليها ما تستحقه من سعادة وهناء، ولكن حسن مفتاح رغم نواياه الطيبة مضطرب الحياة سيئ الظروف، وحسن مفتاح راضٍ باضطراب أحواله وسوء ظروفه، لأنّه صاحب هدف في الحياة، ولكنّه لا يرضى لأحبائه أنْ تضطرب حياتهم وتسوء ظروفهم لقاء وفائهم له، حسن مفتاح وعايدة علم، كلا، إن هذين الاسمين لم يردا معاً في كتاب القدر... (رواية العنقاء ص 111، وص 112).
ثانياً: صراع حسن مفتاح ومونا ربيع الذي يصارحها بحبه لها وهي صامتة ويطلب منها أن تزوره في بنسيون رويال، ثم تهمس مونا ربيع لحسن: وكيف الخلاص من زوجي؟ قالت: لم أعد أحتمل يا حسن، قال: تعالي غداً عند الغروب، قالت: نحن ننزلق يا حسن، قال: هي المقادير لنا أو علينا، فكوني شجاعة، قالت: وكيف الخلاص من زوجي؟! قال: وهل أمامك غير الطلاق، قالت: إنّه لن يرضى بتسريحي... (رواية العنقاء ص 180).
وينتهي الصراع بلقاء بين حسن مفتاح مونا ربيع بفندق متروبوليتان، ويغادر حسن مفتاح غرفة مونا ربيع وهي نائمة بعد أن خصّب أرضها العطشى: (وسمع العصافير تزقزق في قلبه، وعرف الصفاء وتذكر كل ما كان، فلم يعجب، وابتسم وخشي حسن مفتاح أن يصير الفجر صباحاً، فمال إلى مونا ربيع وقبّل شفتيها قبلة كأنّها لم تكن، وسعى إلى الباب دون أن يلتفت مرة واحدة، وكان يعلم أنّ المعجزة قد حدثت، وأنّ الدائرة قد اكتملت، وأنّ الياء ولدت الألف، وأنّ الأب صار الابن، ولهذا لم يلتفت إلى الوراء مرة واحدة، وترك حسن مفتاح مونا ربيع راقدة على السرير مشرقة كأنّها الأرض قد أخصبت، وحين بلغ حسن مفتاح الطابق الأرضي، لم ينسَ أنْ يأمر الخادم بإيقاظ مونا ربيع (الرواية ص 418).
ثالثاً: صراع بين فؤاد منقريوس وسرهنك زميليّ الدراسة في مدرسة المنيا الثانوية للفوز بقلب زكية حنين، فؤاد ينوي الزواج بها، بينما سرهنك قد أخذها عشيقة له، وعندما تقابل فؤاد مع تحية خادمته أيام مدرسة المنيا الثانوية، سألته عن آخر أخباره، فقال سأتزوج زكية حنين قريباً، فضربت كفاً بكفٍ، وقادته تحية ليرى حقيقة زكية حنين بعينيه: وسألتني عن أحوالي فقلت لها إنّي مُقدم على الزواج من آنسة تُدعى زكية حنين، وإذا بتحية تضرب كفيّها عجباً، ثم اقتادتني في صمت إلى الجرسونيرة، وكنتُ أسألها في الطريق: على فين بس يا تحية؟ فتجيب: صبرك يا سي فؤاد، حاتعرف كل حاجة، فلما وصلنا، أخرجت المفتاح وفتحت الباب، فهبّ في وجهي عطر غريب، ودفعتني تحية إلى الداخل، وقالت: خش يا بطل، ودخلت فرأيت زكية حنين تسير في المدخل حافية القدمين، وقد لبست روب دي شامبر من أرواب الرجال على اللحم، ورأيت صاحبنا سرهنك يجلس في مقعد عظيم ويدخن سيجاراً (رواية العنقاء ص 150، 151).
رابعاً: صراع فؤاد منقريوس وحسن مفتاح، بعد انتحار فؤاد مقريوس بسبب خيانة زكية حنين له مع سرهنك، ظلّت روح فؤاد تُطارد حسن مفتاح وتطلب منه أن يقتل زكية حنين: إنّ لعنة فؤاد منقريوس قد حلّت به ولسوف يموت مشنوقاً، ولكن ماذا جنى حتى ينزل به فؤاد منقريوس هذا القصاص؟ إنّ روح فؤاد روح لا شك آثمة، ولسوف يموت مشنوقاً.. إنّ روح فؤاد روح لا شك روح شريرة، ولكن حسن مفتاح يعرف أنّ فؤاد كان أثناء حياته مثالاً للوفاء، لا يحمل الشر إلا ما يحمله طفل في الثالثة، فلا بد إذن أنّ روحه قد غضبت، وحطّمت القط الأسود في لحظة حمقاء (الرواية ص 156).
وينتهي الصراع بانتحار حسن مفتاح مشنوقاً في شقته كما جاء بنهاية صفحات الرواية: (ورأى الرجال الثلاثة جثة حسن مفتاح مُعلقةً في حبل يتدلى من أنبوبة الحمام، وقد أحاطت به مئات الخفافيش المنقوشة على القوالب الصينية اللامعة في الجدران الأربعة، كلها حمراء وكلها تهم بالطيران، وغير ذلك لم يروا شيئاً، وقرأ اثنان منهم الفاتحة، ورسم الثالث علامة الصليب، ولكن حسن مفتاح وحده رسم في الهواء الرطيب علامة المشنقة) (رواية العنقاء ص 441).
أبانت رواية العنقاء الصراع الدائر بين الحركات السياسية التي كانت تناضل للخلاص من الاحتلال الإنجليزي والحكم الملكي قبل ثورة يوليو عام 1952، وأفادت من الأساطير الفرعونية وعكست الصراع الإنساني الدائم بين الخير والشر.