أوقف سيارته الفارهة في آخر موقف للسيارات بجوار المقهى. كانت الساعة تشير إلى المساء في بداية الربيع وقطرات مطر خفيفة جداً تشعرك بالانتعاش. ملأ صدره بنسمات الربيع المقبل. ومشى إلى المقهى بخفة. ملابسه الليلة سروال جينز بلون أزرق وقميص أبيض بأكمام طويلة، وحذاء رياضي أبيض بخط أزرق. عطره له ترنيمة سماوية صباحية، اختلط فيها المسك مع فواكه الربيع. رغم أنه المساء، حمل دفتر ذكرياته كعادته.
في المقهى رُتبت مقاعد الأمسية على شكل دائرة. وكما عطره الذي استباح المكان، كانت هالة الحكمة تحيط به من كل جانب، حصاد السنين، جلس على يمين الضيف والمحاور. أحضر له النادل قهوة مرّة وبسكويتاً طرياً معجوناً بالشوكلاتة. توافد الحضور وأخذ كل مكانه. جلست هي في الكرسي المقابل له تماماً. لفَّت جسدها بعباءة سوداء أخفت مفاتنها إلا ما ظهر منها. غطت شعرها إلا من خصلات هربت وتدلت على جانب وجهها.. لها عينان رُسمت على صفحة قمر. وشفتان عنقود كرز. تلاقت النظرات ثانية. ثم غض كل منهما بصره.
أخرج دفتر ذكرياته بسرعة وكتب: أعرف يا سيدتي أن جمال العيون في لون المقل، وحجتي أن لون عينيك صنوان العسل. الجمالُ بريق وجدِ في عينين سلهب، وابتسامةٌ أدْنت جنتان عن يمين وشمال، خمريتان بضوع مهفهف.
لملم الكلمات في كفيه ثم سكبها في عينيه. نظر إليها وتلاقت النظرات مرة أخرى. فتح قناة اتصال برزخية. يرسلها.. ارتبكت هي ثم تشوشت فقطعت الاتصال! فعاد هو إلى الفراغ. وعادت هي إلى الوهم ترفض الإشارات العابرة. رغم أن لا وجود لخاتم في يدها اليسرى.
تحدث المحاور يقدم الضيف بلسان حنف به عن لهجته المحكية، فأعرب وأبان، وبدا كأنه يصف قطعاً من الجمان بلغة العرب.
قال: ضيفنا اليوم رجل من علْيةِ القوم.
له ملامحنا ويتكلم بلساننا.
يحدثنا عن نفسه.. ورحلته في العلو..
بدأ فنجان القهوة يهتز في يده.. وتناثرت قطرات مرّة..
آخر مرة شعر فيها بالغربة كانت منذ دقيقة واحدة فقط.. وها هو ذلك الشيء يستيقظ فيه.. بعدما ظن أنه تخلص منه.. ولكن لم يخرج منه أبداً منذ أن وطأت قدماه جسر المشاة الصغير ذاك.
في كل مرة يستيقظ هذا الشعور.. يستغشي.. فيضم نفسه بين يديه.. حتى أدمن عناق نفسه.. وما أن هدأت أنفاسه.. وجفت روحه.. أمطرت من جديد..
في ثوان صامتة.. يختنق بعبرة ويبتلع اليم.. وذلك الصوت ينقر أعجازه.. يستفز لحن الغربة الصاخب فيه.. وذلك الذئب ذي المخلب يستيقظ..
قاطع الضيف..
أرهب الحضور..
يقول لهم: أنا هنا.. أنا أيضاً من علْية القوم.. فلمَ أنا على قارعة الطريق؟ لمَ أنا في الصفوف الخلفية؟
تلك الهوية اللعينة التي سجنت عقلي وجسدي.
هل ترون هذا الذئب فيّ.. كشف صدره وكثافة الشعر فيه.. ورفع مخلبه..
تعالت الصرخات:
مجنون!.. مسحور!
لحن جنون.. عازف مجنون.
اتصلوا بالدرك.. أغلقوا القفص.. أطبقوا عليه الحصار.
أصوات سيارات الدرك تأتي من كل جانب.. بنادقهم كلها تستهدفه.
قال رئيسهم:
أطلق سراح الرهائن..
و دعنا نتفاوض..
لاحظ نقطة ليزر حمراء على صدره..
تحرك خطوة واحدة إلى اليمين..
إصابة مباشرة في صدره العاري.. فسقط على الأرض..
أقبلت إليه تهرول.. جثت على ركبتيها وضعت يدها على جرحه النازف.. وضع يده على يدها.. نظر إليها يتمتم.. اقتربت تنصت له فتلامس الخدان.. قال لها: أنا يا سيدتي مثل عينيك بلا وطن.. ما ضرك لو تركتيني أحبك.. وتكوني لي سكني؟