مجلة شهرية - العدد (584)  | مايو 2025 م- ذو القعدة 1446 هـ

رمضات في السيرة الذاتية

لاحظت ندرة ما كتب حول هذا الموضوع من خلال البحث الأولي الذي قمت به، إذ لم أجد إلا دراستين تناولتا هذا الموضوع اطلعت عليهما؛ إحداهما مقالة للدكتور فهد البكر بعنوان (سَردِيّاتٌ رَمَضانِيّةٌ مِن وَحي السِّيرَةِ الذَّاتِيةِ) نشرت العام الماضي في جريدة الرياض حول رمضان في سيرتي طه حسين والعقاد. والأخرى 6 صفحات كتبتها الدكتورة عواطف الرشيدي في بحثها لدرجة الدكتوراه (صورة المجتمع في السيرة الذاتية السعودية من 1431 إلى 1441هـ)، الذي شاركت في مناقشته قبل مدة يسيرة، إذ درست فيه ما ذكره بعض كتاب السيرة الذاتية في النماذج التي اختارتها، ضمن مبحث خصصته للكيفية التي صور بها كتاب السيرة الذاتية الشعائر الدينية في سيرهم.

والحقيقة أن شهر رمضان لم ينل الاهتمام الذي يستحق في الأدب العربي بشكل عام، وكثير مما ورد عنه في النثر القديم، وربما في الشعر أيضاً، يأتي في سياق التذمر والشكوى منه على سبيل الدعابة.
ويختلف حضور رمضان أو تصويره في النصوص الأدبية التخييلية مثل الشعر والقصة، مقارنة بحضوره وتصويره في السيرة الذاتية، فحضوره في السيرة الذاتية حضور حقيقي وله صلة قوية بكاتب السيرة وبهويته الدينية، لكون الصيام أحد أركان الإسلام التي يجب على الإنسان المسلم القيام به تعبداً لله، ومجال التصوير الخيالي فيه ضعيف جداً، بل يكاد يكون منعدماً في السيرة الذاتية.
وبعد اطلاعي على عدد لا بأس به من السير السعودية تبين لي أمران مهمان: الأول أن رمضان لم يرد أو يحضر في كل السيرة الذاتية السعودية، رغم أهميته في حياة كل مسلم. والثاني أن حضور رمضان في السير التي حضر فيها لم يكن في الغالب الأعم مقصوداً لذاته وإنما جاء موضوعاً استطرادياً، ودرجات حضوره فيها متفاوتة في الكم والكيف.
وعلى الرغم من أن الإشارة إلى شهر رمضان قد ترد في مواطن عمرية متعددة من السير الذاتية السعودية، فإن أغلب الإشارات قد وردت مرتبطة بمرحلة الطفولة. وهذا يبين أثر شهر رمضان والصوم في تشكيل هوية كتاب السيرة الذاتية، ومدى تجذر تجربة الصوم في ذاكرتهم، ومدى ترسخ القيم المرتبطة بهذا الشهر في نفوسهم وتشربها لها وبخاصة في مرحلة الطفولة، قيم من مثل التعبد، والترابط الاجتماعي، والتكافل، والصبر وغيرها من القيم البناءة الأخرى.
وأستشهد هنا بما ذكره أحمد المساعد في سيرته (بين هؤلاء عشت): ولا أزال أتذكر كيف كنا في سن الطفولة نمارس الألعاب التي لا يخلو بعضها من ربح، فنقوم بعد صلاة العصر من كل يوم خميس خلال شهر رمضان بالجولة على بيوت القرية لممارسة ما كان يعرف بـ(القليا) (القرقيعان) التي تشبه حالات التسول الجماعي المحفوف بالنشيد حاملين أوعية نضع فيها ما كانت تجود به نساء القرية من الهبات التي غالباً ما تكون من حبوب القمح المحمصة التي تسمى (القلية) أو حبوب الذرة المطبوخة وتسمى (الطبيخة، وفي القليل النادر تكون الهبة حلوى أو بسكوتاً.. وندعو لها (قلي قلي يا عمة الله يكبر ولدك.. ويغدي يحتطب لك.. من رأس ريع الرهوة). ويذكر المساعد قصة المرأة المخادعة للأطفال في هذا السياق.
السياقات التي ترد فيها الإشارة إلى شهر رمضان:
- السياق التعبدي، مثل تحري رؤية الهلال والحديث عن ظاهرة المشاعيل عند عبدالواحد الحميد في (سنوات الجوف)، وأحمد المساعد.
- الصوم، والصدقة، والزكاة، وصلاة التراويح، مثل ما نجده عند عبدالله بن إدريس وهو يؤم الناس صغيراً في صلاة التراويح (قافية الحياة).
- السياق الاجتماعي الأسري، مثل الإشارة إلى الإفطار الرمضاني الجماعي عند عبدالواحد الحميد، في (سنوات الجوف)، وكذلك عن مسعد العطوي في سيرته (التحول).
- السياق الطفولي، الألعاب، كما نجد في سيرة حمزة المزيني (وكان أفضل أوقات اللعب في رمضان بعد صلاة العشاء لاسيما في الليالي المقمرة إذ نلعب ألعاباً مختلفة)، القرقيعان، وتجربة الصوم في سن مبكرة، كما نجد في سيرة سارة الخزيم (أفياء المشتل) (في الصف الثالث أو الرابع بدأت والدتي تحثنا على صيام شهر رمضان المبارك، كانت توقظنا بعد آذان الفجر الأول لتناول السحور، الذي كان غالباً كبسة رز على ربيان جاف، في نهار رمضان كان والدي يحثنا على قراءة القرآن ويحكي لنا بعض قصص الأنبياء..) تم تتحدث عن أكلات رمضان وتبادلها مع الجيران.. والاستماع إلى بعض البرامج الإذاعية مثل يوميات أم حديجان، وعلي الطنطاوي، وكذلك تفعل هانم يار كندي في سيرتها (حياتي من ثنايا القلب) إذ تتذكر مرافقتها لأمها وأحياناً لجدتها لصلاة التراويح والتهجد في الحرم الشريف عندما كانت طفلة (ص15). وكما ذكر د. محمد الرشيد في سيرته (مسيرتي مع الحياة) فهو يقول في الاحتفاء بشهر مصان: (حتى إن الصيام كان محل فخر الصغار، إذ إنهم يصومون من أنهم ليسوا في سن التكليف)، ثم يفصل بعد ذلك اجتماع الناس في المساجد لقراءة القرآن معظم يومهم، ويقيمون صلاة التراويح والتهجد.. (31). أما حمد البليهد فيشير في سيرته (عشيات الحمى) إلى تجاربه الأولى غير المنتظمة والمراوغة في الصيام بأسلوب اعترافي جميل، فيقول: (حل شهر رمضان في تلك السنة، ولم يكن صومي فيها منتظماً، فقد كنت في مرحلة التدريب، أقلد أختي الكبرى التي كانت تُمسك إلى غروب الشمس، أما أنا فلم أكن أتردد عن ملء فمي بالطعام رابعة النهار، وربما خرجت أبحث عمن يكذب علي وأكذب عليه من صبية الحي، فنخرج ألسنتنا مشفوعة ببعض الحلف دليلاً على الصيام) ص143. والحقيقة أن اعترافات البليهد الرمضانية في مرحلة الطفولة لا تقف عند هذا الحد بل تمتد أكثر، فهو يقول: (وكانت ليالي التراويح في رمضان توفر لنا متعة العبث في المسجد ومضايقة المصلين) ص 162.
- السياق الغذائي، الأطعمة التي تقدم في رمضان في كل المناطق تقريباً، كما نجد في سيرة آل زلفة مثلاً، وأحمد المساعد، وسارة الخزيم، ومسعد العطوي، الذي يخصص فصلاً في سيرته للمناسبات التي تقدم فيها الأطعمة (مناسبة الأطعمة) في مجتمعه ومنها مناسبة رمضان، يقول: (كنا صغاراً ننتظر رمضان بخيراته، ففي الإفطار فهو زمن الخير يأتون بالتمور يعلوها الزبد، وننتظر مساء يوم الجمعة في كل رمضان لما يقدم فيه من أطعمة..) ص36.
- السياق الاغترابي في السفر وفي البعثة، كما نجد في سيرة محمد المفرح (من الزلفي إلى برلين)، وسيرة محمد الصبيحي (رحلة الأيام)، فقد تحدث عن صيامه خارج المملكة لأول مرة في لبنان 1965، بشيء من الحنين للصوم في بلاده، وقال: (لي قصة مع الاغتراب في أيام وأمسيات شهر رمضان المبارك، وأذكر أنني عندما اضطرتني ظروف العمل والظرف الصحي لقضاء أول صيام خارج المملكة في لبنان، ترجمت تلك الحالة بنص كتبته عن ذلك، وقدمته بصوتها المطربة اللبنانية سعاد هاشم بعد أن وجدتُ أنه ليس أجمل من صيام رمضان في بلدي، وكان مطلع النص يقول: (رمضان في بلادي ما أحلى أيامه)، وفيه أدخلتُ الكثيرَ من المسميات والمشاهد الرمضانية التي أعيشها في بلدي مثل مفردات البليلة، والترمس، والمنفوش، كما أنني لا أنسى برنامج ألغاز رمضان الذي قدمته مع الزميلة المذيعة الراحلة شيرين شحاتة). ويستطرد بذكر التنافس الذي كان يحدث بينه وبين زملائه مثل بدر كريم، ومحمد الشعلان، وعبدالكريم الخطيب، في تقديم البرامج الرمضانية.
ويقول محمد آل زلفة في سيرته (سيرة حياة) حول موضوع الاغتراب والسفر في رمضان: (جاء رمضان وشعرت منذ اليوم الأول بحنين جارف القرية حيث لرمضان فيها قيمة اجتماعية عالية إلى جانب قيمته الدينية. طبعاً، دخل رمضان وهو أول رمضان لي في الرياض في الغربة فلم أحس بدخوله كما كنا نحس به في القرية، حيث كنا نستعد له من قبل دخوله أحياناً بشهر أو أكثر، صبرتُ وقلت اللهم صبرني على ما أنا فيه، اشتقت لخبز أمي في رمضان، اشتقت لغروب الشمس في قريتي أيام رمضان، اشتقت لسهرات رمضان مع أصدقائي عند أهل القرية الطيبين، اشتقت لسماع أصوات النساء وهن يتنادين قبل وقت السحور لكي لا تغفل أي منهن في إعداد السحور لأهل بيتها..) (مج2 ص 94)
- سياق المواقف والأحداث المؤلمة والصعبة في حياة الكاتب مثل ارتباط الصوم بالموت مثلاً كما نجد في سيرة (نقاء الطين الأبيض) للأستاذ خالد اليوسف، فبعد انتهاء شهر رمضان ومجيء العيد، أصر والده -يرحمه الله- على صيام الست من شوال رغم مرضه، وقال: (لا يتم عيدي إلا بصيام الست من شهر شوال في مدينة الزلفي. وفي اليوم الرابع من شوال وهو اليوم الرابع بعد العيد ثالث أيامه في الصيام، وبعد الإفطار استرخى وطلب من أخي أن يتركه بعض الوقت لكي ينام قليلاً، وعند آذان العشاء سيكون مستعداً للصلاة، وحين عاد أخي موسى إليه وجده قد رفع سبابته وهو على جنبه الأيمن، حمد الله وحوقل سريعاً وعند الالتفات ليخبر والدتي وجدها بجواره واقفة وهي تبكي وتهلل وتذكر الله، وقالت له: شعرت به وتركته مع الله يناجيه ويتشهد ويردد الشهادة ولله الحمد).
ومن الأحداث الجسام المرتبطة بحضور شهر رمضان في بعض السير ارتباطه بتجربة المرض، فأبو مدين يقول في سيرته (حكاية الفتى مفتاح): (وأذكر خلال تلك الفترة أنني مرضت بالحمى في رمضان، وبقيت أسبوعين لا أذوق سوى الماء وأخرجه ثانية) ثم يصف المعاناة التي مر بها وكادت أن تقضي عليه لولا إيمانه وصبره. (161)
ومن المشاق المرتبطة بشهر رمضان والصوم في أجواء المدينة المنورة الحارة ما ذكره منصور الخريجي في سيرته (ما لم تقله الوظيفة: سنوات من حياتي)، فهو يقول: ولك أن تتصور أيضاً حال الصائم الذي كان عليه أن يذهب إلى السوق عصراً كل يوم -كما كنت أفعل - لإحضار متطلبات الإفطار، وكان ذلك عبئاً لم يكن لي فكاك منه لأن العادة جرت على أن يقوم الأخ الأصغر بهذه المهمة. أرجو الله تعالى أن يكتب لنا أجر صيام تلك الأيام الصعبة. كانت الحرارة تدفعنا إلى أن نغمس (شرشفاً) خفيفاً بالماء ثم لا نعصره بل نلفه حول أجسادنا (ص 124). وكرر هذا في ص 133 ولكنه تحدث عن روحانية شهر رمضان وفضل صيامه في المدينة المنورة. وفي هذا الموضوع نفسه يضع صالح الهذلول عنواناً فرعياً (الهروب من صيف رمضان) في سيرته الذاتية (تيسرت: سيرة ذاتية) وفيه يصور مشقة الصيام في المدينة في فصل الصيف وعن الكيفية التي يتعامل بها الناس وهو معهم مع هذه الأجواء الرمضانية الحارة (ص 214).
ومن صعوبات الصوم الأخرى ما ذكره علي القرني في سيرته (القرية) وقصة السحور.
ومن الأحداث الجسيمة المرتبطة بشهر رمضان في السيرة الذاتية، ارتباط هذا الشهر عام 1393، بحرب 6 أكتوبر عام 1973، في سيرة زاهر الألمعي (رحلة الثلاثين عاماً) فقد خصص الفصل 49 (حرب رمضان عام 1393) من سيرته للحديث عن هذه الحرب بين مصر وإسرائيل واقتحام خط بارليف، وتفاعل زاهر الألمعي مع هذا الحدث بنظم قصيدة طويلة بهذه المناسبة:
تواثبت الأبطال يمتد زحفها
وهبت أسود من خنادقها غضبى
أقامت على متن القناة معابرا
جسوراً إلى سيناء مدت بها وثبا
ولعلي أختم هذه المداخلة بالإشارة إلى مكان غير متوقع، على الأقل بالنسبة لي، في السير الذاتية وجدت فيه الإشارة إلى رمضان، وهو في الرسائل التي يتبادلها الكاتب مع الآخرين، وتكون بعضها محتوية على التهنئة بدخول شهر رمضان والإشارة إلى كثرة الأفراح التي تقام في هذا الشهر في الطائف وفي مكة (هانم ص 136).

ذو صلة