حائرةً بأمري، أسيرُ وحيدةً على طريقٍ مستقيم، أنظرُ هنا وهناك، أخطو خطواتي ببطء، وبقدمي أركل حصى الشارع المبعثرة.
قطعتُ مسافةً ليست بالقصيرة، لا يوجد شيءٌ أمامي، على حافة الشارع لوحةٌ إعلانية، وقفتُ لبرهةٍ قصيرةٍ أمامها أتفحصُ ما كتب عليها.
لم أفهم شيئاً، على ما يبدو أن أحد المارة قد قام بالعبث بها، محاولاً إزالة المكتوب عليها بطلاء أسود، لا أعلم ما كان يدور بذهنه حينها حتى فعل ذلك.
يوجد كلمتان في زاوية اللوحة (أهلاً وسهلاً) وسهمٌ صغيرٌ يتجه لليمين.
نظرتُ باتجاه الإشارة، وإذا بممر يؤدي إلى بهو كبيرٍ وضخمٍ محاطٍ بسيارات قديمة متهالكة بلون الصدأ.
وبحركة لا شعورية قادتني قدماي نحوه، قلتُ لعلي أكتشف سراً هناك.
دخلتُ ذلك المكان المكتظ بالأشياء القديمة المبعثرة في كل الاتجاهات، ويكاد الغبار أن يصبح لحافاً بلون الزمن الصامت.
ما هذا الذي أراه أمامي؟
مشهد يثير الاشمئزاز.
مهلاً، لحظة!
يوجد هنا بعض الأشياء قد جذبت ناظري.
ما الذي أراه؟
زجاج مكسور ملون بألوان الحياة الصاخبة، ألوانٌ رائعةٌ فعلاً.
جمعتُ ما أمكنني منها ووضعتها في حقيبتي التي أحملها على ظهري.
ماذا يوجد أيضاً؟
هذا إطارٌ ممزقٌ، ربما كان يحوي صورة ولكن لا أثر لها.
وهنا كرسي محطمٌ منقوشٌ عليه وردةٌ محفورةٌ بعنايةٍ.
تكادُ أن تنطق.
وكأنها تقول: اشتقتُ لمن كان يجلسُ على هذا الكرسي ويلامسني بيديه…
جميعُ ما أراه حولي عتيق ومهمل وعشوائي.
على ما يبدو هناك قوارضٌ قد التهمت لوحاتٍ مسكينة، وقد أصبحت هشةً تماماً.
المكانُ أصبح مظلماً، فالإنارةُ تكادُ تكون معدومة، والرائحةُ كريهة…
حسناً، أرى زاويةً قد لفتت انتباهي، سأحاول الوصول إليها، ربما أجدُ شيئاً ما ينفعني.
ولكن للأسف، كلُ الأشياء حولي محطمٌة بالكامل…
كتاب!
وجدت كتاباً قديماً، مسحتُه بيدي لمعرفة عنوانه المتخفي تحت الغبار.
جلستُ على أرضيةٍ غير مريحةٍ ومتسخة بشدة.
فتحتُ الكتابَ وكنتُ متحمسة جداً.
في الصفحة الأولى قرأت: (أنا أنتَ وأنتَ أنا)، تساءلت ماذا يعني ذلك؟
قلبتُ صفحاته ببطء، كان في الصفحة الثانية عبارة غير واضحة: «لا تتعجب لا تتساءل فلمَ الاستغراب، خذ ما تريد وارحل من هنا، هيا ارحل…».
انتابني الخوفُ للحظةٍ وأصبحتُ أتمعنُ بالمكانَ المظلم أكثر، نظرتُ يميناً وشمالاً، ثم رفعتُ رأسي عالياً كي أرى سقفه كيف يبدو، مدققةً بأدق التفاصيل، وشباكُ العناكب تخفي المشهد…
الإنارةُ أصبحت معدومة، والفضولُ قد غلبني.
على ضوء الولاعة قرأت في الصفحة الثالثة من الكتاب، وللصراحة بدأتُ أرتعبُ بعضَ الشيء، كان مكتوباً عليها: «ما بك؟ هل خفت؟ أينتابك القلق؟ أما زلتَ تملكُ الشجاعةَ الكاملةَ كي تتابعَ القراءة؟ أم تطوي صفحاته وترحل؟…».
فقلتُ في نفسي: والفضول ينخر عظامي سأتابع، أريدُ معرفةَ ما هو مكتوب. وبدأتُ بقراءةِ هذه الصفحة التي كتب عليها: «الموتُ والحياةُ واحد… أنا وأنتَ واحد… لا تقف... لا تخف… لن تكونَ إنساناً إن لم تشعر، إن لم تحب، أنتَ القوةُ التي وهبكَ إياها اللهُ اسقِ إحساسكَ بالحب والشغف والخير هل علمتم من أنا ومن أنت؟».
إن جميع الأشياء المبعثرة في المكان المظلم تدلُ على الجميع أي (نحن)، والغبارُ الذي ملأ المكان بلحافٍ شتويٍ قاسٍ يدلُ على نفوسنا المزيفة، والتراكماتُ العشوائيةُ هي عقولنا التي تحاولُ جاهدةً للتخلص منها. إنها فعلاً صفحاتُ حياتنا ولا نقدرُ على تنظيمها أبداً…
في الصفحة الأخيرة كان هناك لوحة مرسومة بقلم فحم تحتوي ساحة مظلمة مغطاة بالغبار غير مرتبة فيها أساس محطم وقطع تبديل سيارات تالفة عنوان اللوحة كان (خردة) ولكن المثير فيها وجود فتاة في الزاوية المظلمة غير واضحة المعالم تتربع على الأرض وتتصفح كتاباً قديماً...
إن الذي أبحثُ عنه هو هذا الكتابُ الذي أيقظني من سباتي…
عدتُ من جديد، أسيرُ بطريقٍ يعجُ بالعشوائياتِ والذكرياتِ القديمةِ التي أكلتها السنينُ، برائحةِ الوردةِ المنقوشةِ على ذلك الكرسي الحزين.
بدأ النورُ يظهرُ من حقيبتي، بألوان الحياةِ المتجددة.
ها أنا عدتُ من جديد، بعدما كنتُ على وشكِ أن أقولَ: قد أصبحتُ خُردةً.