يزخر السودان بما فيه من مساحات شاسعة وثقافات متعددة بالكثير من الحرف اليدوية المليئة بالمعاني والمضامين الفنية والتاريخية المستقاة من الطبيعة الساحرة والموروث الثقافي العتيق المتعدد الروافد، والذي أضاف بدوره للمعارف الإنسانية والقيم الجمالية المبدَعة التي مازالت تحكي عن ماضيها للأجيال عبر الفنون الحرفية التي أنتجتها متطلبات الإنسان في الحياة.
ومن أقدم تلك الحِرَف اليدوية التي عرفتها الشعوب السودانية، تلك الأدوات والمعدات الموجودة داخل البيت السوداني، وقد تمت صناعتها من سعف النخيل، ولها أسماء عديدة، تتفق وتختلف وفق البيئة.
فمنتجات السعف مثلاً، تعد هي الأكثر انتشاراً في الماضي وحتى حاضرنا اليوم، في الريف والحضر، فبالرغم من أنها حِرَفٌ يدوية متعددة كانت حِكراً على النساء، إلَّا أن الرِّجال كانوا يسهمون في جلب موادها التي تتطلب السَّفر أحياناً وتحتاج إلى الجهد والمشقة، ومن ثم يقومون بأخذ المنتج للأسواق ليتم بيعه ومن ثم نقله بين كثير من المدن داخل السودان المترامي الأطراف.
فلنأخذ مثلاً المنتجات التقليدية المختلفة الأشكال والأحجام كـ(البروش) و(الطباقة) فهي مصنوعة من سعف النخيل، فبالتأمل نَجِد أن المرأة السودانية تبرز وتبدع في صناعتها، وذلك بفطرتها السليمة وإمكاناتها الفنية وخبراتها المتراكمة بمعايشتها لطرائق التصنيع، وتفاعلها غير المنقطع مع التراث، وكأنها تستشعر مسؤوليتها التاريخية والاجتماعية تجاه هذا الإرث الثقافي المهم الذي تخشى عليه من الاندثار، لذلك نجدها تبدع دائماً في تصميم الأشكال والرموز بالألوان المحببة من الأصباغ لدى المجتمعات السودانية.
تاريخياً رصد عدد من باحثي الأثريات في الحضارات المَرَوِيَّةِ والنُّوبِيَّةِ عن الآثار فوجدوا نقوشاً حضارية ضاربة في القدم، وذلك ما يجعلنا نقول إن منتجات سعف النخيل تعود لتلك الحقبة من التاريخ البعيد.
فاستمرار صناعتها إلى الآن ما هو إلَّا دليلٌ على أنها من أعتق وأعرق الحِرَفِ اليدوية المُعبرة عن الهُوية الثقافية، حيث يتسابق الحضر لحيازتها من أجل التعبير عن الهوية والفخر والاعتزاز بها والزهو بالانتماء إليها. وسبق أن تم الكشف عن أطباق ومفروشات مصنوعة يدوياً من سَعْفِ النخيل يعود تأريخها لتلك الحضارات القديمة، وبذات تصميم منتج اليوم مع الاختلاف قليلاً في الزخارف والرسومات الملونة، مما يدلل على عمق وأصالة هذه الحرفة اليدوية المعبرة عن الموروث الفني دون انقطاع.
وبمهارة فائقة اليوم نشاهد في معارض التراث النوبي وفي الأسواق الطرفية والقرى البعيدة نسبيَّاً عن المدن؛ نشاهد منتجات سعف النخيل تعكس صوراً عديدةً من ماضي إنسان السودان وتطلعاته المستقبلية. ومن أهم تلك المصنوعات اليدوية أطباق الطعام المتعددة الأشكال والألوان والأحجام التي تغطى بها المائدة.
فالطبق يتم استخدامه في تغطية الطعام وتقديمه، وجميع الأطباق المصنُوعة من سعف النخيل تأخذ أشكالاً عديدة بعضها يكون تقليداً لأهرامات البجراوية وبعضها يحمل رموزاً دينية تاريخية عبر دلالة الألوان التي تعني الكثير في الثقافة الشعبية السودانية، وكذلك نجد أشكالاً من البيئة والطبيعة، ويتم مزج الألوان بطريقة تجعلها أقرب للقطعة الفنية على الجدران الأثرية.
ومن سعف النخيل أيضاً نجد المفارش والسجاد الذي يطلق عليه محلياً اسم (البرش) وهو للجلوس والصلاة والنوم، ومن أنواعه (الحَجَّال) وهو أكبر حجماً ومزركش بالألوان يستر به بيت القش (القُطيَّة).
أما البرش فيوجد منه ما هو ملون ومزركش بالتشكيل، وما هو على طبيعة لون السعف، كذلك للبرش بعد ديني معلوم، حيث يرافق الإنسان في كل مراحل الحياة من الميلاد إلى الممات.
فمنذ شهور الحمل الأخيرة يتم الإعداد لتجهيز برش المرأة النفساء ليستقبل به المولود، ويكون مصبوغاً باللون الأحمر الغامق، وكذلك نجد (برش) الختان للأطفال، وهو يختلف قليلاً في ألوانه وحجمه، مع ضرورة وجود اللون الأحمر، ثم نجد (برش) الزواج للعريس، وهذا يكون مخصصاً لطقوس الزواج التي تسمى (بالجرتق)، وتسبقها جلسة خضاب الحناء للعريس على (البرش) المخصص للعريس وهو الأقرب في التصميم والألوان (لبرش) الختان، وهناك برش لرقص العروسة يسمى بـ(السباتة)، ومن ثم نجد نوعاً آخر من البروش عندما يودع الإنسان الحياة، يتم حمله على (برش)، يكون خالياً من اللون الأحمر والألوان الأخرى، ويسمى بالبرش الأبيض، ويكون وضع هذا البِرش على ما يشبه السرير لكنه مصنوع من الأشجار المحلية كشجر الهجليج أو السدر ومنسوج بحبال من السعف أيضاً، ويسمى (العنقريب)، وعادة ما يُحمل الجثمان عليه حتى وصول المقابر. وكذلك يسمى ببرش الجنائز، ومحلياً (ببِرِش العَوَجَة) عند بعض المجتمعات السودانية والبعض كان يسميه برش الرحمة، وبهذا يكون البِرش حاضراً في كل مراحل حياة إنسان السودان، وبين هذا وذاك نجد بروش أخرى مخصصة لقيام الليل وصلاة الفرض وإفطار رمضان، وحتى في المقاهي الشعبية التي يرتادها الصنايعية وتسمى (قهاوي العمال)، وكذلك المطاعم الطرفية نجد مفروشات سعف النخيل كانت تشكل حضوراً، ورغم انتشار المقاعد المريحة والأنيقة البعض يفضل الجلوس عليها. ودائماً ما يكون الحجم حسب الغرض والمكان والوظيفة، وبكل تأكيد كل أنواع البِروش المتعلقة بالعبادات خالية تماماً من الزخارف والرسومات والألوان إلَّا مؤخراً أُدخل عليها الخيط الأسود وغالباً ما يكون من الوبر، وكذلك اللون الفضي وتشكيل وكتابة بعض الكلمات ذات الصلة بالبعد الديني، وهناك نوع آخر من البروش للمدارس القرآنية وعند المتصوفة تحديداً تعرف بـ(التبروقة) وهي ذات شكل دائري أو بيضاوي ومثلها على الشكل الدائري برش مخصص للمرأة به فراغ في وسط الدائرة ويسمى بـ(النطع) عادة تستخدمة المرأة عندما تجلس للدخان الذي يعد من ضمن زينتها، ويكون مصدر الدخان من حطب الطلح و(الشاف). والبعض يستخدمه للعلاج من بعض الأمراض، وما يميز هذا البرش المخصص لهذه العادة تجويف وسطه، وكأنه من دائرتين هندسيتين.
ويختلف عن مصلاية الصلاة المستطيلة ذات اللسان لسجود المصلي. علما بأن هناك (البرش) الدائري المخصص للعبادة والذكر، والمجسم الصغير جداً منه يسمى بـ(الهبابة) وتستخدم لإضرام النار.
أما طريقة إعداد السعف ورحلة صناعة هذه المفروشات والمنسوجات التقليدية فلا تخلو من المتاعب، بداية من رحلة البحث عن النوع الجيِّد من السعف، مروراً بمرحلة التحضير، ورغم أنها لا تحتاج إلى معدات كثيرة نجدها تحتاج إلى الصبر والدِّقَّة والتفاني في جو مليء بالحماس.
فبعد اختيار السَّعف بعناية تستخلص منه خيوط الليف التى تستخدم مصفاة للبن المسحون لتحضير فنجان القهوة بدون شوائب.
بعد ذلك يتم وضع السعف في الشمس لمدة زمنية تقدرها المرأة بخبرتها ونوعية السعف، هذا بعد تقطيعه بعناية يعرض بعد ذلك على الرطوبة حيث يتم احضار جوال من (الخيش) ويبلل بالماء وتسمى هذه المرحلة محليّاً بالبِلال، ثم تبدأُ عملية الضفيرة التي تعد المرحلة الفعلية الأولى لصناعة البِروش ومن هنا تظهر براعة اليد وسرعتها وينعكس الحس الفني وتتفاعل الذاكرة مع الأشكال المختزنة ويبرع الخيال في التصورات، فمثل هذه المهن تعتمد كثيراً على الابتكار حتى تضمن المنافسة لأن في كل موسم ينتظر السوق أشكالاً مختلفة، مثلما يفعل أصحاب الموديلات والتقنية الحديثة.
هذه المنتجات اليدوية يخصص لها التجار أسواقاً أسبوعية، أي ذات اليوم الواحد في الأسبوع في الأرياف، بينما يتم عرضها يوميّاً في أسواق المدن، فلها زبائنها الذين يتخذون منها زينة في عرضها في محالهم التجارية التي أصبحت قبلة للسياح وصغار التجار من الأسواق الفراعية.
أما التحديات التي تواجه هذه الأعمال اليدوية، فتتمثل في الطفرة الصناعية الكبرى التي انتظمت العالم، منافسةً للمنتجات الحديثة، ولكن رغم ذلك ظلت هذه المنتوجات اليدوية الطبيعية تقاوم برمزيتها الثقافية وتعبيراتها عن الهويَّة والإرث. فلا يتم الاستغناءُ عنها لكونها تفعل ما تعجز عنه العولمة بكل زخمها المتنامي، فهذه الحِرفة تسهم في التعريف بما هو مطلوب من انتماء للتاريخ والجغرافيا.
وبالمقابل هناك جانبٌ معنويٌّ يتمثل في تحفيز رواد المعارض الرَّسمية والشعبية، وما من مهرجانٍ للثقافة والأدب الشعبي والتراث والفنون والفلكلور في زمننا الحاضر إلا وكانت الحِرف اليدوية حاضرة في تشكيل مبهر، ومشهدٍ بديع.