مجلة شهرية - العدد (577)  | أكتوبر 2024 م- ربيع الثاني 1446 هـ

البطل الخارق في الدراما العربية

إن الهوية الثقافية المعنية بطبيعة المجتمعات تتغير بتغير مناخها السياسي والعقائدي، مع الاحتفاظ بالنسق المتوارث الذي يضيء سمة هذه المجتمعات ويميزها عن غيرها، بما ينعكس سلباً أو إيجاباً على المنظومة القيمية التي تعنى بالفرد. ولعلي أجد أن كثيراً من الشعوب عُرِفت عن طريق لهجتها، زيّها، السحنة المشكلة لمنظرها، المزاج، وما يتعلق بتقلباتها النفسية، وماهية التعامل فيما بينها أو مع الآخر، من حيث الالتزام الأخلاقي، بل حتى من خلال نوع الأكلات، وقد تكون ثمة صفات إنسانية انمازت بها لتشكّل صفة دالة تمثل حقيقة هذا المكوّن بجميع مزاياه، وهذا ما نلاحظه بصورة جلية في هذا الأوان، وبعد تمدّن الحياة واختصارها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ليكون العالم عبارة عن مدونة معلوماتية تظهر عن طريق محرك البحث، وقد يضفي هذا التقدم العلمي جهازاً مفاهيمياً جديداً على طبيعة الكائن البشري، بعد ما كان بحلة تقليدية ساكنة، وينعكس هذا التمدّن على جميع مسارب الحياة الاجتماعية والاقتصادية، مع الأخذ بعين الاعتبار الحراك الجمالي والفني منه، وهنا يكون التثوير في السياق الكلاسيكي تبعاً لظهور مدارس حداثية لها أنساقها المعرفية المؤهلة بإعطاء منظومة معيارية ناجمة عن تثاقف منهجي واضح، له عدة مشتركات مع سابقه، مثل التكعيبية والتجريبية والسريالية.. وإلخ، وهذا أمر طبيعي في ماهية الاستحداث والمغايرة عن طريق وضع منهاج طليعي وفق نظام معرفي دال له زعمه في التطور والتجديد، لينسحب هذا الأمر على جميع الأصعدة الجمالية بأشكالها ومسمياتها من أدب بجنسيه الشعري والسردي إلى نحت وسينما ومسرح، لتظهر ملامح النهضة على جميع هذه الفنون، مع الإشادة بالعلاقة الجدلية بين عنصر الفن بوصفة العتبة الأولى في استفزاز وعي الإنسان ومدركاته الحسية وبين المحيط الخارجي الذي يستقبل هذا الفن.
واقعاً، بودي أن أتوقف عند الدراما العربية تحديداً، وما طرأ عليها من استحداثات في الشكل والصورة التي تعنى بهيئة البطل الدرامي ومظهره العام، وقد يتصل هذا الاستقراء البحثي عند تناسب المضمون الذي يتكيف وفق مقدرات الواقع وأحداثه الكثيرة، فمن الخطوات الأولى التي يشتغل عليها المؤلف هي تكنيك الفكرة بشخوصها المختلفة ووقائعها المفصّلة، وكلا الأمرين معنيان بتهيئة وتنشيط الحدث، لذا أجد أن سجية البطل الدرامي الذي يعدّه صاحب النص، إن كان عاشقاً ذائباً في حبيبته، أو رجلاً خارقاً عنجهياً له قوّته المدمّرة ونفسيته الموتورة؛ يتراوح ما بين القدرة على الإقناع من عدمها، وقد يرجع السبب إلى طبيعة الكاتب نفسه، إن كان قد خبر أدواته الحرفية جيداً أو لا، ليصنع من فارس نصه صاحب سمة غالب عليها الخيال أكثر من قدرته الفعلية، فيضخ في بعض التفاصيل المعنية به كماً من الصفات الفوقية، جاعلاً منه إنساناً متفرداً عابراً لحدود المتوقع، وهذا أمر اعتيادي -قد يكون ذلك- في حال لو توافقت الجنبة الفكرية مع سياق الحدث لتشكّل بعداً درامياً قائماً على محددات فنية مانحة ذلك الوهج الاعتباري للبطل، وهذا ما نجده في كثير من الأعمال الدرامية العربية، أما في حال المضي بالخيال لصالح البطل على حساب الفكرة فإنه سيسهم في خلق فجوة فنية لا داعي لها، لكني سأستقر عند جنبتين معيّنتين لهما أثرهما الواضح على السمة المعنية للبطل، وما يضمره من خصال إنسانية كانت أم أخلاقية، أو لعلها جسمانية معلنة تؤرق المتلقي وتمطره بعلامات استفهام.
الجنبة الأولى هي ميزة البطل العاشق في الدراما العربية، هل بالضرورة أن يكون وسيماً، ممشوق القوام، صاحب عينين براقتين؟ وهل من الضرورة أن يقتصر العاشق على صاحب السمات الآنفة فقط؟ وهل الموجب الفعلي له أن يكون منتصراً في نهاية المطاف مختصراً جميع العقبات التي تصادفه؟ هل ثمة حدود فاصلة ما بين المدونة الأدبية العربية كوقائع وأحداث عامة وبين انزياح الخيال الفني بعيداً لينتج لنا مشهداً جمالياً خارجاً عن المألوف؟ ولماذا نستمتع بهذا المتسلل من أرض الواقع؟ هل يشكّل لنا خدراً نسبياً إمعاناً لكمّ الهموم المتراكمة التي تحيط الفرد العربي؟
الجنبة الأخرى هو الكاريكاتير الذي يخصّ البطل، هل يحتّم عليه أن يعبر حدود المنطق بأن يضرب عشرة أفراد في آن واحد على الرغم من بنيته الجسمانية الهزيلة، أو أن يتعالى على النظام الاجتماعي ليكوّن فعلاً دراماتيكياً يتمحور بين الواقع والخيال؟
بدءاً من المفترض أن نشير إلى الأعمال العظيمة التي قدمتها الشاشتان الصغيرة والكبيرة على مدار مدة التأسيس إلى يومنا هذا، وهذا أمر لا شك فيه، مشيراً إلى الدور الفاعل الذي يقدمه الفن على المستوى الإنساني والقيمي بالنهوض بوعي الشعوب، وإعطائه حصانة معرفية؛ لكن هذه الصناعة من المفترض أن تمرر لنا عبر رواشح نقدية مهنية مع الاحتفاظ بعنصر التشويق والإثارة اللذين دأبت عليهما الذهنية الأدبية، غير أن هذا التشويق من المفترض أن يكون غير مجاني، أما بخصوص الإثارة فمن الواجب ألا تصبح سائبة ومنزاحة عن الواقع بمراحل كبيرة وصادمة، فما الداعي أن يكون البطل نحيل القوام وله المقدرة على الإطاحة بكل من هب ودب، وهنا إشارة إلى مراجعة عملية خلق الأبطال من لدن الكاتب، أو أن تكون سعة التشويق غير مقننة بحسب معيار السبب والنتيجة لتندرج في إطار الخيال غير المدروس، ولعلي أجد أن مجتمعاتنا مُررت عليها كثير من هذه الأعمال ورُوّج لها وشاع سوقها في حينها بسبب موهبة الممثل الذي وقع عليه الاختيار، إن كان كوميدياً أو تراجيدياً، ليعطي للدور حقه من الناحية الفنية، بعيداً عن معمارية المشهد وهاجسه العام، فيكون الاهتمام بالبطل الدرامي نفسه بعيداً عن قوة المشهد من عدمه، وقد يخلق (افيه) واحد منه عالماً من الضحك على مدى سنين عديدة كما حصل للفنان عادل إمام في كثير من أعماله التي شكّلت علامة فارقة، وأصبحت متداولة في يومياتنا، كذلك الحال عند الفنان الكوميدي العراقي محمد حسين عبدالرحيم، وغيرهم الكثير من الفنانين على الصعيد التراجيدي مثل الفنان المصري عادل أدهم أو الفنان العراقي عز الدين طابو اللذين وهبتهما ملامحهما الصارمة تأسيساً راسخاً وانطباعاً مسبقاً لذهنية المتلقي. العنصر الآخر، حالة الكد والوجع الذي تعيشه أغلب بلداننا العربية التي لها نتائجها السياسية والاقتصادية لينعكس هذا على المشغل الفني، ولعله يكون تحريضاً على اتّباع بعض من السياقات الفنتازية داخل المبنى الحكائي للنص العام تبعاً لمآل الواقع المؤلم ليتبلور إلى فعل جمالي على مستوى الصوت والصورة، لكني أجد أن في هذا الأوان التكنولوجي المتعافي بتقنيات الذكاء الاصطناعي والتي بدورها استحوذت على جزء كبير من سعة المخيال لتؤسس عالماً حدّياً بعض الشي؛ من الصعب أن يتفاعل أبناؤه مع ما يُصدّر من أعمالٍ باردة من حيث اختيار الأدوار وتصويب شخوصها فناً ورؤية وتجسيداً حقيقياً، كونها أعمالاً ثقيلة في ماهية تدوير الحدث بالاتجاه الصحيح، ومجرّدة من القابلية الفنية على إرضاء شغف المتلقي.

ذو صلة