قد تتقارب الموضوعات التي يتناولها الأدباء في رواياتهم وقصصهم، لكن المعالجة تختلف من كاتب إلى آخر تبعاً لرؤيته إلى العالم من حوله، وبماذا ينفرد عن سواه، وبماذا يمتاز.
***
قصة (الذراع) للكاتب الكبير (ليف تولستوي) 1828 - 1910 ليست من أعماله الشهيرة التي يذكرها النقاد عند تناول سيرته الأدبية، وفي حال إيرادها فتذكر عرضاً مع قائمة أعماله الأخرى.
أما قصة (وداعاً يا غولساري) فهي من أهم أعمال (جينكيز آيتماتوف) 1928 - 2008 لهذا لا يمكن تناول تجربته الأدبية دون الحديث عنها. بل الكثير من النقاد عدوها من أهم أعماله على الإطلاق.
وهذا لا يعني بالضرورة أن قصة (تولستوي) لم تصنف ضمن أعماله المهمة لأنها أقل قيمة فنياً، أو فكرياً، من قصة (آيتماتوف) التي تصدرت أعماله. بل ربما لم تمتلك هذه القصة مقومات منافسة الأعمال الأخرى لـ(تولستوي) التي سلطت عليها الأضواء. وهذا ما امتلكته قصة (وداعاً يا غولساري) مقارنة مع الأعمال الأخرى للكاتب نفسه.
على أي حال.. لسنا في صدد تقييم الأعمال المهمة لكل من الكاتبين، أو المقارنة بينها لمعرفة أي الأعمال أفضل. بل منهجنا تحليل القصتين لاكتشاف نقاط التشابه والاختلاف بين العملين.
***
قليلة هي الروايات والقصص التي قام الحيوان بدور البطولة فيها. وفي هذه الدراسة سوف نتناول قصتين طويلتين -صنفتا كروايتين قصيرتين أيضاً- قام الحصان بهذا الدور، وهذا ليس بالغريب، فالحصان من الحيوانات الداجنة التي رافقت الإنسان في السلم والحرب منذ فجر التاريخ، لهذا كان حاضراً في تراثه الأسطوري والحكائي القديم. أما في العصر الحديث فتراجع ذلك الحضور في الأدب السردي، وبقي عند الكتابة عن بعض جوانب الحياة في الريف.
الأسبق زمنياً في الكتابة هو (تولستوي) الذي كتب قصة (الذراع) والعنوان لا يشير إلى موضوع القصة، لهذا أضاف المؤلف عنواناً فرعياً (حكاية حصان) ليمهد للقارئ موضوع روايته. أما الذراع فهي وحدة قياس تدل على خطوات الحصان الواسعة، والسريعة أيضاً.
أما عنوان القصة الثانية (وداعاً يا غولساري) فلا يشير صراحة إلى أي حصان، فـ(غولساري) ليس اسماً للحصان بالضرورة. ومعنى الاسم (الزهرة الصفراء) وقد حمل المهر هذا الاسم بسبب لونه الذهبي الجميل الذي لفتت الأنظار إلى حسنه وجماله، فأحبه سكان المزرعة وتعلقوا به.
ولون المهر في قصة (الذراع) كان وراء تسميته بـ(أبلق) فثمة لطخ حمراء تعلو وبره، لكن هذه اللطخ ليست من صفات الخيول المحببة، فكان لونه وبالاً عليه، لهذا لم يدرب على السباق في المضمار الذي يقتصر على الخيول التي تتمتع بالجمال، رغم أنه عندما جرى في المضمار تقدم على إحدى أفراس السباق لقوته وتناسق أعضائه.
بيع حصان (تولستوي) وتنقل بين أكثر من مالك، واقتصر دوره أن يكون دابة للركوب، أو لجر العربات. وهذا كان عمل الحصان (غولساري) رغم الجمال المدهش الذي تمتع به، ولكن المزرعة الريفية التي ولد فيها لا تعرف سباق الخيول.
***
في قصة (تولستوي) يتمتع الحصان بالقدرة على التفكير كالإنسان، بل ويقيم سلوك الإنسان من ناحية أخلاقية أيضاً، ويفهم كلام البشر، لكنه لا يستطيع التحدث إليهم. أما حصان (غولساري) فلا يجيد لغة البشر، ولا يمنحه المؤلف القدرة على التفكير كالإنسان. بل هو حصان ككل الخيول على الأرض. ويكتفي (آيتماتوف) بوصفه من الخارج. ولكن عن طريق هذا الوصف يحلل أحاسيسه الجسدية ومشاعره، لاسيما عندما يعرض المؤلف قصة وقوعه في حب فرس جميلة. أما حصان (تولستوي) فلا تربطه أي مشاعر جيدة مع خيول المزرعة، حتى علاقته بأمه صارت سيئة.
***
الحصان هو البطل المطلق في قصة (تولستوي) ويقتصر الحضور البشري على أدوار ثانوية -مع أن هذا الحضور يأخذ مساحة من السرد- أما في قصة (آيتماتوف) فالحيوان والإنسان يتقاسمان البطولة من أول القصة إلى آخرها، فلا يكتفي الكاتب برصد حياة الحصان، بل برصد حياة أحد رعيان المزرعة الذي رعاه في صغره، وبعد إبعاده عنه لسنوات عاد إليه وقد صار هرماً، وهذا ما أحزن الراعي الذي لم يفقد الاهتمام به، وظل يعنى به إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة. أما حصان (تولستوي) فلم تحبه الخيول أو البشر، وعندما هرم قتله صاحبه، والتهمته الذئاب.
***
أكثر نقاط الالتقاء ما بين الكاتبين (تولستوي) و(آيتماتوف) الإجادة في الوصف، وعرض التفاصيل الدقيقة التي تثري الموضوع، وهنا تكمن قدرة الكاتب المتمكن من السرد في الرسم بالكلمات مشاهد يراها القارئ بعين مخيلته. ولكن وصف (تولستوي) لا يخلو من الإسهاب في بعض المواطن أحياناً. وهذا لا نجده عند (آيتماتوف) لوجود الكثير من الأحداث في قصته، إضافة إلى جماليات السرد والوصف التي عني بها، بينما اشتغل (تولستوي) على الجانب الفكري بتركيز أعلى.
أما مقولة القصتين فلا غموض فيها، لكنها عند (آيتماتوف) أكثر جلاء لأنه عالج حياة الراعي، إضافة إلى معالجة حياة الحصان. عكس (تولستوي) الذي اكتفى بمعالجة حياة الحصان لتقديم أفكاره، وهي تدور بمجملها حول عقدة النقص، والاضطهاد المحيط، والحسرات التي يخلفها الزمن. وهذه تلتقي مع مقولة (آيتماتوف) التي لا تخلو من الحسرات على الزمن الجميل الذي ذهب دون عودة، لكنه يترك باب الأمل موارباً. أما عند (تولستوي) فلا تفضي القصة إلى أي أمل.