(إدارة التراث الثقافي) موضوع ذو أهمية بالغة في عالمنا الحالي بالنظر إلى أن التراث الثقافي يعكس هوية الشعوب وتاريخها، ويمثل جزءاً حيوياً من التنوع الثقافي الذي يحتوي على قيم ومعرفة تستحق المحافظة عليها وتوثيقها للأجيال القادمة. ولكون التراث الثقافي مجموعة من الممتلكات المادية وغير المادية التي تعكس هوية وتاريخ شعب أو مجتمع. يشمل التراث الثقافي الآثار والمباني والفنون والحرف والتقاليد، واللغات، والمعارف، والقيم. وهو بذلك يعد مصدراً للهوية والانتماء والاحترام للآخرين. كما يسهم التراث الثقافي في تعزيز التنوع الثقافي والحوار بين الشعوب والحفاظ على الذاكرة الجماعية للشعوب والأمم.
ولأن إدارة التراث الثقافي هي عملية تخطيط وتنفيذ السياسات والإجراءات المناسبة لحماية وتعزيز ونشر القيم والمعارف والممارسات المرتبطة بالتاريخ والهوية والتنوع الثقافي للمجتمعات؛ فهي تشمل أيضاً توفير الدعم والتدريب والتوعية للمؤسسات والأفراد المسؤولين عن المحافظة على التراث الثقافي وإتاحته للجمهور بما يسهم في تحقيق التنمية المستدامة والسلام والحوار بين الثقافات.
وتهدف إدارة التراث الثقافي إلى الحفاظ على التراث الثقافي المادي وغير المادي وتطويره بطرق مستمرة ومستدامة للحفاظ والعناية بالمواقع التاريخية والمباني والآثار والتحف والممتلكات الثقافية الأخرى التي تمثل قيمة تاريخية وثقافية كبيرة. ولكن ليس فقط ذلك، بل تعتني أيضاً بالتقاليد والممارسات والعادات الثقافية التي توارثتها الشعوب والأمم من جيل إلى جيل.
ويعد الحفاظ على التراث الثقافي مهمة ضرورية لعدة أسباب. أولاً وقبل كل شيء، فإنه يسهم في الحفاظ على الهوية الثقافية للشعوب ويعزز الانتماء للمجتمعات. وثانياً، فإنه يسهم في رفع الوعي الثقافي والتعليمي للأفراد ويمكنه أن يكون مصدراً للتعلم والإلهام. وثالثاً، فإنه يمكن أن يكون مصدراً للنمو الاقتصادي والسياحي للمناطق التي تحتضن التراث الثقافي.
ومع زيادة الوعي العالمي لأهمية الحفاظ على الإرث والتاريخ التراثي والثقافي والتحولات السريعة في إدارة التراث الثقافي في الفترة الأخيرة، اعتمدت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) اتفاقية التراث العالمي في عام 1972م، وبعدها قامت اليونسكو بإصدار كتاب مهم بعنوان (إدارة التراث الثقافي العالمي) في شهر نوفمبر 2016م، والذي يعد مرجعاً مهماً للمهتمين بحماية وتعزيز وإدارة التنوع الثقافي في العالم. يتناول الكتاب مفاهيم وأسس وآليات وأدوات التراث الثقافي العالمي، ويقدم أمثلة على كيفية تطبيقها في مختلف المجالات والسياقات. من بين هذه الأمثلة، يمكن ذكر المواقع التراثية العالمية التي تشمل مواقع طبيعية وثقافية ومختلطة، والتي تعبر عن قيمة استثنائية عالمية. كما يشير الكتاب إلى أهمية الممارسات والتعبيرات والمعارف والتقنيات التراثية غير المادية، التي تشكل جزءاً حيوياً من هوية المجتمعات وذاكرتها. ويهدف الكتاب إلى توعية المجتمعات والمؤسسات والفاعلين المحليين والإقليميين والدوليين بأهمية التراث الثقافي العالمي كمورد للتنمية المستدامة والحوار بين الثقافات والحضارات. وبالتالي هناك العديد من التجارب العالمية الناجحة في إدارة التراث، نذكر منها المثال لا الحصر ما يلي:
- تجربة اليابان في إدارة التراث الثقافي، حيث تتمتع اليابان بتراث ثقافي غني ومتنوع، وقد نجحت في الحفاظ عليه وإدارته بشكل فعال. وقد أدت الحكومة اليابانية دوراً رئيسياً في ذلك، من خلال إنشاء العديد من المؤسسات والهيئات المعنية بإدارة التراث الثقافي، مثل وزارة الثقافة ووكالة التراث الثقافي. كما تشارك المجتمعات المحلية اليابانية بشكل فعال في إدارة التراث الثقافي، من خلال المشاركة في الصيانة والتطوير والتعريف بالتراث.
- تجربة الصين في إدارة التراث الطبيعي، إذ تمتلك الصين تنوعاً بيئياً هائلاً، وقد نجحت في حماية هذا التراث الطبيعي من خلال إنشاء العديد من المحميات الطبيعية والمناطق المحمية. كما تشارك المجتمعات المحلية الصينية بشكل فعال في حماية التراث الطبيعي، من خلال المشاركة في أنشطة الرصد والمراقبة والحماية.
- تجربة الولايات المتحدة في إدارة التراث الثقافي، حيث تمتلك الولايات المتحدة تراثاً ثقافياً متنوعاً، نجحت في الحفاظ عليه وإدارته بشكل فعال من خلال إنشاء العديد من المؤسسات والهيئات المعنية بإدارة التراث الثقافي، مثل المعهد الوطني للحفظ والمجلس الوطني للمتاحف. كما تشارك المجتمعات المحلية الأمريكية بشكل فعال في إدارة التراث الثقافي، من خلال المشاركة في البرامج التعليمية والثقافية والتراثية.
- تجربة جنوب أفريقيا في إدارة التراث الثقافي والطبيعي، حيث تمتع جنوب أفريقيا بتراث ثقافي وطبيعي غني ومتنوع، وقد أدارته بشكل فعال من خلال إنشاء العديد من المؤسسات والهيئات المعنية بإدارة التراث الثقافي والطبيعي، مثل وزارة الفنون والثقافة والترفيه وهيئة التراث الثقافي، كما تشارك المجتمعات المحلية الجنوب أفريقية بشكل فعال في إدارة التراث الثقافي والطبيعي، من خلال المشاركة في التعريف بهذا التراث والمحافظة عليه.
ومع ذلك تواجه إدارة وإجراءات الحفاظ على التراث الثقافي تحديات كبيرة لدى بعض الدول خصوصاً بين الدول ذات التراث الثقافي الواحد أو المتقارب. لذا، فإن إدارة التراث الثقافي ينبغي أن تواجه هذه التحديات، وأن توفر الحماية اللازمة للمواقع والتحف الثقافية، مع تعزيز التوعية بأهمية التراث الثقافي والتشجيع على المشاركة المجتمعية في الحفاظ عليه.
وفي الختام، أصبحت إدارة التراث الثقافي مسؤولية وطنية على كل دولة ومسؤولية جماعية على المنظمات الدولية نحو عالم يحافظ على أصالة التراث الإنساني العريق. لهذا يجب علينا كشعوب ودول أن ندرك أهميتها ونعمل سوياً للحفاظ على التراث الثقافي وتنميته، لأنه يشكل جزءاً لا يتجزأ من عقولنا وهوية شعوبنا وتراثنا التاريخي.