مجلة شهرية - العدد (577)  | أكتوبر 2024 م- ربيع الثاني 1446 هـ

التعدد اللغوي بالمغرب ورهان الحفاظ على الهوية

يتميز المغرب، بحكم موقعه الجيوستراتيجي، بتعدد حضاري وثقافي متنوع ثري ناتج عن تعاقب الحضارات على امتداد التاريخ، كالحضارة الأمازيغية والفينيقية والبيزنطية والقرطاجية والرومانية... وغيرها، فتنوعت بذلك ثقافاته التي اختلفت مصادرها وأصولها وتباينت لغاتها وألسنتها باختلاف مشاربها وينابيعها الأمازيغية والعربية والحسانية، والأفريقية والأندلسية والعبرية. فتعدد اللغات واللهجات بالمغرب ليس وليد الصدفة، عبر تاريخه تعايشت حضارات عريقة عابرة مع الحضارة الأمازيغية التي تعتبر، حسب بعض المؤرخين، أولى الحضارات المتواجدة في منطقة شمال أفريقيا. فنجد الأمازيغية بلهجاتها (تاريفيت - تاشلحيت - تامزيغت) والعربية بلهجاتها (الجبلية والعروبية والشمالية...) والحسانية والعبرية وغيرها.
على الرغم من أن الأمازيغية كانت تعاني من التهميش والإقصاء، منذ الاستقلال إلى غاية دستور 2011 الذي شكل منعطفاً وتحولاً رئيسياً جعل من اللغة الأمازيغية لغة رسمية، يظل الواقع المغربي شاهداً على تنوع ثقافي غني يستحيل تجاهله بالرغم من المخاطر التي تهدده. في هذه الورقة سنستعرض الخطر الثقافي الذي يتشكل عبر انصهار اللهجات واللغات الأصلية وكيفية الحفاظ عليها من خطر الضمور والاندثار.
في عصر العولمة وتكنولوجيا المعلومات، تواجه اللهجات واللغات الثقافية بالمغرب خطر الانصهار والتلاشي أمام تأثير الثقافات المهيمنة التي أصبحت تضيق الخناق على الثقافة الأصلية وتسعى إلى طمسها من حيز الوجود حيث إن العولمة لا تقتصر فقط على المستوى الاقتصادي والسياسي وإنما يتعدى تأثيرها ذلك فتشمل الأبعاد الفكرية والثقافية واللغوية.
لا ريب في أن اللغة تلعب دوراً محورياً في تشكيل هوية الأمم وثقافتها، وأي إهمال أو تهاون في حق اللغة الأم ينعكس سلباً على الهوية الثقافية، فاللغة هي الوعاء الذي يحوي الثقافة والهوية، وتغيير هذا الوعاء يؤدي لا محالة إلى تغيير جذري في الثقافة والهوية. مما يهدد باندثار الموروث الثقافي اللغوي الذي يحمل في طياته هويات الأفراد والمجتمعات التي يتخلى أهلها عن لغتهم لصالح لغات أجنبية تعتبر رمزاً للتقدم والرقي مما يعزز مكانتها كمؤشر على الحداثة والتحضر، فيصبح استخدام اللغة الأم دليلاً على التخلف والرجعية.
لذا تعتبر المحافظة على اللغة الأم درعاً واقياً وحصناً منيعاً لهوية الأمم وثقافتها، فاللغة حاملة للثقافة والفكر والعادات والتقاليد والقيم التي تصنع نسيج الهوية وتمثل مظهرها الأساسي، فهي أداة وكيفية إدراك للواقع.
ولعل ما يهدد هوية الأمم هو الاستعمار اللغوي والثقافي، فعندما نقوم بإقصاء اللغة الأم نقوم بتدمير جانب مهم من التراث والذاكرة الجماعية، وهذا بالضبط ما يقوم به المستعمر حيث يعمل على مأسسة الهيمنة السياسية عن طريق التحكم في اللغات الأصلية وتشتيتها. ولعل التاريخ شاهد على أن السيطرة الاقتصادية والسياسية لا يمكن أن تتحقق بدون هيمنة ثقافية وفكرية فيقوم بفرض لغته باعتبارها (أداة للسلطة) حسب تعبير ميشيل فوكو، فتتم صناعة مجتمع الاحتقار الذي يعتبر من أخطر أنواع التهميش كما كشف أكسيل هونيت في كتابه (مجتمع الاحتقار) ونتيجة لذلك يتشكل جيل متأثر بالاستعمار الثقافي، يفتقر إلى هويته الثقافية الأصلية فينشأ لديه اعتقاد راسخ بأن لغته الأم لا تضاهي اللغة المهيمنة وأن التخلي عنها واعتماد اللغة الأجنبية بمثابة جسر للانتقال إلى حياة جديدة بثقافة مختلفة.
فلم تعد وظيفة اللغة تقتصر على عمليات التواصل والفهم، بل تجاوزتها إلى وظائف عديدة تتعلق بعمليات فك التشفير وتأويله وحفظ التراث الثقافي، نأخذ على سبيل المثال لا الحصر (أرجوزة ابن طفيل) التي تحتوي على أكثر من 7700 بيت شعري يصف الأمراض التي تصيب الإنسان وطرق علاجها.
ولكي نقوم بحفظ لغاتنا ولهجاتنا، يجب تكريس الجهود لتحصين اللغات الوطنية والجهوية بإحيائها وإعادة استخدامها وصيانتها وتطويرها والإصرار على تمريرها للأجيال اللاحقة حتى لا تصاب بالضمور والانزواء والانكماش لأن الحداثة تنافس من أجل السلطة الرمزية، وإذا انهزمت هذه الأخيرة انهزمت الهوية وباتت اللغة مهددة بالانقراض. فنحن بحاجة إلى صناعة لغوية رصينة وقوية وسياسة تحمي بضائعنا اللغوية بدل العمل على استئصالها وإضعافها. لننخرط بذلك في ثقافة فاعلة قادرة على الانخراط في الحركة العالمية المناهضة لسلبيات العولمة. وتقطع مع التقسيم التقليدي للعالم الذي كان قائماً على المعتقد الديني للأفراد والشعوب، وتنحاز إلى العالمية المؤمنة بالحرية والعدل والمساواة، والرافضة للتعصب، والإقصاء، والاستعمار، والهيمنة ونساهم بذلك في بناء جيل يعتز بأرضه وهويته.
فالاهتمام باللغة يجب أن يكون من خلال إصدار قوانين ملزمة للمحافظة عليها.، والاستفادة من وسائل الإعلام واستخدامها في نشر اللغة بين الناس. واستخدام الطرق التكنولوجيّة الحديثة والمتطوّرة في تعليمها. وكذلك من خلال تدريسها في الجامعات والمدارس بشكل جدي يضاهي الاهتمام بتدريس اللغات الأجنبية.
إلا أن التأكيد على أهمية التمسك بلغتنا ولهجاتنا لا يعني بالضرورة رفض التعدد اللغوي أو اعتباره ضاراً بشكل مطلق. بدلاً من ذلك، ينبغي التعامل مع التعددية اللغوية بشكل يحقق أكبر فائدة ممكنة ويقلل من السلبيات، من خلال منهج يسعى لتعظيم المنافع وتقليل الأضرار. فنحن مطالبون بتعلم لغات الآخر والاستفادة من حسنات العولمة ودرء سيئاتها، فالهوية لا يخلقها الانعزال ولا يرسم معالمها إلا الاحتكاك والمعاشرة، فالتنوع الثقافي يشكل عنصراً أساسياً وثابتاً في المجتمعات الحديثة. تتجلى المخاطر عند إهمال أو عدم الاعتراف بهذه التنوعات اللغوية والثقافية، أو عند إدارتها بطرق تفتقر إلى العدالة والديمقراطية.
يمكن القول في ختام هذا المبحث، إن حماية الموروث اللغوي من شأنه أن يوفر الاستقرار والأمن من أجل مستقبل آمن ومزهر، فجميع الفاعلين مطالبون بتمكين كل تراب أو جهة من ممارسة حقوقها الثقافية واللغوية. وعوض الدفاع عن أحادية اللغة يجب البحث عن حلول وميكانيزمات جديدة لإنعاش لهجاتنا ولغاتنا عبر إقحامها في برامجنا الدراسية وخلق تظاهرات ثقافية وبتنظيم حملات توعوية وجعلها محط انشغال الفاعلين الثقافيين والمدنيين أثناء بلورة أنشطتهم التحسيسية. فالتنوع الثقافي والتعدد اللغوي يشكلان رافعة أساسية لتعزيز النموذج التنموي في بلادنا.

ذو صلة