هو أستاذ فريد لم يلقه صاحبنا في قاعات الدرس، ولم يشرُف بالجلوس بين يديه في كراسي المجامع أو الجوامع، بل لقيه أولَ عهده به في صفحات كتبه، فتجوّل معه في حدائقها، وتصعّد وتحدّر في أفانينها، وشمّ أريجَ زهورها، فاستطاب نفحَ طيبها، وآنس فيها غنى وغذاء.
ثمّ شرُف به مناقشاً له ومقوّماً في رسالتيه في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، وكانت الأولى منهما بداية مغنم امتدت خطوطه بعد ذلك أكثر من عقدين من الزمان، حظي خلالها منه ومعه بجلسات ماتعة ولقاءات نافعة، في البيت الحرام وفي رحاب بيته في معادي القاهرة، حتى ألِف الابنُ التلميذُ زيارتَه كلّ عام والمكثَ معه أيّاماً يتخلّى فيها عن كل شيء ليخلص له الجلوس مع شيخه وأستاذه. نهل خلال ذلك من أستاذه الكثير، وعرف عنه الكثير، وما زادته الأيام واللقاءات إلا تعلّقاً بأستاذه، وتقديراً لخلاله وأخلاقه.
ذلكم هو أستاذه وشيخه العلَم المفضال، الماجد المعطاء، الأستاذ الدكتور محمد محمد أبو موسى، شيخ البلاغيين، ورائد البلاغة وإمامها غيرَ مُنازَع في العصر الحديث.
كان أوّل لقاء له بشيخه في قاعة كلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية صبيحة يوم مناقشته، فلا يدري الفتى أكانت فرحته بالمناقشة وقطف الثمار، أم بذاك اللقاء الفاخر بالشيخ الزاخر. فقد جاد عليه شيخه فيه وأفاض، وقوّم وأفاد، وانتهى اللقاء بعد ساعات مرت كأنها طيف خيال. وكذلك جاءت وقائع اللقاء الثاني في مناقشته بمرحلة الدكتوراه، فتلقى تقويماً وتسديداً، ونصحاً وتوجيهاً، وهداية وتعليماً، لا يزال مع مر السنين يذكر كثيراً منها بقلبه وفؤاده الذي سُقي من نبع صاف فارتوى.
كانت المناقشتان مفتاحاً لعلاقة تنمو وتزداد بين شيخ كبير وتلميذ صغير، بين أستاذ قدير وطويلب مقبل محبّ شغوف، وكان من فضل الله عليه أن أجازه الشيخ في جميع بحوثه وأعماله، ودامت له توجيهاته مزهرة مثمرة.
والشيخ العزيز محبٌّ للوفاء، خلق الأصفياء، وعلامة الأنقياء، يعجبه قول ابن نُخَيلة: (إنّ الشكرَ حبلٌ من التُّقَى)، قرأ وهو صغير: (إنّ عاراً ونقيصة على الكريم أن يموت وعليه دَين من ديون المعروف)، فبقيت في ذاكرته يرويها، وبقيت في نفسه يحييها وتحييها، موقناً أنّ من أخسّ أخلاق المرء أن يقصّر في الوفاء. وقد أسفر عن وفائه لأساتذته وأشياخه بابتهاجه عند ذكرهم، ودعائه لهم، وذكرهم في أشجانه وحديثه، وفي محاضراته ومؤلفاته.
ومن وفائه وعميق جذوره أن يستروح تلميذُه في كلّ جلسة معه أنسامَ العزة والرّفعة والكرامة التي يتنفّسها في حديثه عن رجالات العلم الأوائل، وتراث الأمّة المكتنز، ومن أقواله السائرة المحفورة: (من ازدرى بتراث أمته كان أقلَّ من أنْ يُزدرى به). فكان الشيخ يبتهج إذا تحدّث عنهم، ويطرب لكلامهم ونصوصهم وإلماحاتهم، ويحبّ تحليل كلامهم، واستنباط علومهم. وقد جُعل أُنسُه في العلم ومع العلم. يكون أحياناً متعباً مرهقاً، فإذا ما فتح صاحبنا صفحة من (الدلائل) أو (الأسرار) نشط وغيّر جلسته، ليكشف عن دلائل الأسرار، وأسرار الدلائل، فلا يكاد ينتبه بعد ذلك لوقت. هو رجلٌ عرف مكانة قومه، وآمن بتراث أهله، فلم يَخذلهم، ولم يتخلّف عنهم، ولم يرتم في أحضان أحد، ولم يخضع لحزب أو تيّار، أياً كان.
لم يمنعه ذلك من الفحص والتدقيق، والإضافة والاستنباط، وكان مولَعاً باستنباط الفوائد، واستخراج العلوم من العلوم، فلم يكن ناقلاً أو ناسخاً ولاصقاً فعلَ الكثيرين، بل كانت اللفتة التي يجدها عند عالم منطلقاً له ليفرّع ويحلّل، ويَفهم ويُفهم، ويستوعب فيضيف، وممّا علّمه تلاميذَه: (افهمْ حتى تُفهِمَ)، و(مَن يَظلّ يُعلِّم لا بُدّ أنْ يظلَّ يتعلّم)، و(اسعَ لفهم طريقة استنباط الفكرة قبل أن تحفظها).
ومن أجمل اللفتات التفاتته إلى المسكوت عنه في تراث العلماء، وكانت كل دراساته وكتبه تأملاً وتحليلاً واستنباطاً، في تراكيب الكلام العربي، وشعره، وفي الحديث النبوي، وكتاب الله العزيز، في سبعة وعشرين مؤلفاً غزيراً، تربو صفحاتها على أربعة عشر ألف صفحة.
ومن أعظم دروسه لتلميذه أن علّمه أنه لا يكفي أن نفهم العلم بل لابد أن نقتنع به، ولا يكفي أن نكون من حملته بل لابد أن نكون من حماته، ولا يكفي أن نكون علماء بل لابد أن نكون دعاة إليه.
ومما أدركه التلميذ في أستاذه العَلَم تذوّق مبهر للشعر، وحسن استنباط لمعانيه، ودقّة فهم لأسراره، ولربّما ابتسم أثناء قراءة نصّ لبيت راق له، أو علّق تعليق الطرِب الملتذّ. ولم يمنعه طربه لشعر الأوائل، وتتبّعه لأسرار الشعر الجاهليّ، أنْ يتابع الشعر الحديث، ويقف على ما حسُن فيه، وكم استنشد من تلميذه فعجّبَ وأُعجب.
آمن وعلّم تلاميذه أنّ المادّة العلمية يجب أنْ تُقدّم في قالب يليق بها، حسناً وجمالاً، وجزالة وكمالاً، وأنّ الواجب على المؤلِّف أنْ يكتب بلغة تليق بمستوى المادة العلمية التي يقدّمها، لا بمستوى من تُقدَّم لهم، وأنّ المؤلِّف بهذا يرتفع ويرتقي بمستوى القرّاء، ويحافظ على متانة العلم، وأنّ هذا هو السبيل الأنفع والأقوم لتكون المؤلَّفات بانيةً فاعلة رافعة.
وإذا عرف جدّاً أو نبوغاً في تلميذ تبنّاه، وأولاه مزيد عناية، ومن فرائده حرصه على تدريس طلاب المستوى الأول سنوات ليكتشف مواهبهم، ويعرف متميّزهم، مدركاً أنّ مكانة الأستاذ ليست في الصف الذي يدرسه، بل في العلم الذي يقدّمه.
وفي أوّل لقاء لصاحبنا بأستاذه حفظ عنه قاعدة ذهبيّة في العلم والتعليم، إذْ قال له: (إنّ الأستاذ إمّا أنْ يتخرّج على يديه طلّاب أقلّ منه علماً، أو مثله، أو خير منه، فإنْ كان الأستاذ من الفئة الأولى كان هذا حكماً عليه بالفشل وعلى الأمّة بالتخلّف، إذْ ستنحدر مستويات الطلاب جيلاً بعد جيل، وإنْ كان من الفئة الثانية كان حكماً عليه بعدم التميّز وعلى الأمّة بعدم التقدّم، وإنْ كان من الفئة الثالثة كان حكماً عليه بالنجاح والتميّز وعلى الأمّة بالنهضة والتقدّم، فلا مفرّ لأستاذ مخلص صادق أنْ يسعى ليكون من أصحاب الفئة الثالثة).
تعلّم التلميذ من أستاذه أنّ الصدق والنصح في العلم يكون في الصدق والنّصح في القول والحُكم، فلم يعهد منه إلا صدقاً خالصاً في الحكم على الأشخاص، وإن اختلف معهم في رأي أو فكر، وعرف منه وعنه كثيراً من المواقف التي لا يجامل فيها ولا يُهادن، مع حفاظ على روح النصح والشفقة وبيان العلم، فكان له في ذلك أبلغ الأثر، وأغزر العِبَر.
يظهر لكل من يشرف بالجلوس معه صدق خالص، ونصح صادق، وحرص ناصع، يبثّه أنفاساً حرّى بعبارات تصل إلى قلب محدّثه منطلقةً من قلبه. يتأسّى على كل ضعف يراه في الأمّة، ويأسف على كل فتور في الهمّة، ويحثّ طلابه على مواصلة البحث بعزم، والكتابة بصدق وجدّ، والتنقيب في النّصوص عن كل خبيء وكنز، وكم وكم وجد صاحبنا في جلسة ماتعة أو مكالمة عابرة وقوداً يدفعه إلى المزيد، ويحثه على الجديد.
ومع شعوره بما دهى الأمة من ضعف، وما أصابها من هوان وعجز، كان يكره أن يسمع نغمة للتشاؤم، وقد يلوم ابنه ويعاتبه إن قرأ له ما يوحي بذلك. داعياً إلى الانصراف عن ذلك بالسعي الحثيث والجد الهميم، لتقديم ما ينهض بالأمة، ويرفع الهمة، فما كان الاكتفاء بالبكاء يوماً رافعاً أو نافعاً.
وهكذا عرفه صاحبُنا ذا جدٍّ فريد، وسعي دؤوب، فما زاره إلا وجد عنده مؤلَّفاً جديداً، وبحثاً ما زال يكتب فيه بقلمه ويده التي كتبت عشرات الآلاف من الصفحات، ولا تزال تُعطي وتهب في كل حين جديداً فريداً، في همّة يغبطه عليها الشباب، حتى كأنّ حياته صارت بين قلم ومحبرة. قال لصاحبنا في مكالمة حديثة حاثّاً ومشجّعاً على العمل الدؤوب: (لقد صرت أمشي مستنداً على الحائط ممّا بي، لكنّ قلمي بيدي لا أنتهي من بحث أو كتاب إلا لأبدأ بآخر).
من أجل التفرّغ للعلم والتعليم والقراءة والتأليف زهد في المناصب وفرّ منها فرارَ الناس من الأسد، وحين علم عام 1985م بنيّة مدير جامعة الأزهر تعيينه عميداً سارع الخطو إليه، وألحَّ بصرف النظر عن تعيينه، وقال: (اتركني للبحث والتعليم)، فتركه وشأنه، فكان له مع قلمه صُحبة، ومع أوراقه رِفقة.
لا يزال الشيخ مع سنواته الخضِرة التي جاوزت الخمسة والثمانين يحاضر ويدرّس، ويتابع ويراجع، ويشرف ويناقش، وفوق ذاك وذاك يشارك منذ أكثر من عشرة أعوام في عضويّة هيئة كبار العلماء في مصر، ولا يتأخّر عن كل ما يظنّ فيه خيراً أو يرجو منه نفعاً لخاصّة أو عامّة. وقد عرف الابن الصغير أنّ أباه الكبير لا يمكن أنْ يقابله في وقت درسه في الجامع الأزهر، لأنّ ذاك أولويّة عنده لا يقبل التأخر عنها، ويجد فيها متعته وروحه، فصار صاحبنا يرتّب زيارته في يوم تال لذلك اليوم، ليغنم ما استطاع من خير وفضل.
عمل في بلده أعواماً مديدة، وعمل في ليبيا أربعة أعوام، وفي السودان أشهراً، وفي مكة تسعة عشر عاماً، ثم ألقى عصا الترحال بعد أن بذل ما استطاع وقدّم لطلاب العلم الكثير، ولم يلق سيف القلم وإنْ وهَنَ منه العظم والبدن، فشغله العلم عن كل شيء، ولم يشغله عن العلم شيء.
ولم يتغيّر الشيخ أو يتبدّل، ولم يترفّع أو يتكبّر، بل كان مثالاً حيّاً لعالم متواضع، يألف ويؤلَف، لا يزيده مديح المادحين عطاءً، ولا يُعنى بما يُقال عنه، مؤمناً أنّ عليه العمل وليس عليه النتائج، وموقناً أنّ عليه المضيّ في الطريق مهما عظُمت آفاته وصوارفه. صاحَبَه صاحبُنا في مؤتمرات علميّة، فرأى الجموع تحيط به، وهو هو في ابتسامته وهدوئه ومبادئه، وحين أراد أنْ يكتب عنه قبل خمسة عشر عاماً نهره ومنعه، ولم يقبل إلا بعد إلحاح وإصرار.
أكرم الله صاحبَنا بصحبته في عدّة مؤتمرات علمية في الزقازيق وأسيوط والرياض، فرأى رأيَ العين حفاوةَ الأساتذة في هذه المؤتمرات بالشيخ، وتقديمهم له، واحتفاءهم بآرائه وتوجيهاته، واحترامهم لمقامه وعلمه وآرائه، ومن ذكرياته العالقة الباقية أنّ الشيخ المبارك حين دخل صالة أحد المؤتمرات توافد الحاضرون للسلام عليه وتزاحموا، وأطافوا به وأحاطوا، وتلك صنيعةُ العلم، ولعلّها عاجل البشرى له حفظه الله.
مُتجمِّعينَ كأَنَّهم سِرْبُ القَطا
مُتَدَفِّقين كأَنّهم أَنْهارُ
قَدْ لَوَّحوا بالرَّاحَتَيْن وزاحَمُوا
وتَلفَّتوا بالنَّاظِرَيْن ومَارُوا
لهمُ دَوِيٌّ بالهُتافِ وضَجَّةٌ
ولهمْ بِصدْقِ دُعائِهم تَهْدَارُ
مَنْ يَغْرِسِ الصُّنْعَ الْجَميلَ بأُمَّةٍ
فَلهُ مِن الشُّكْرِ الْجَميلِ ثِمَارُ