ما مغزى الحياة؟ لماذا نحن هنا؟ أين نحن سائرون؟
الجواب أشار إليه القرآن الكريم بهذه الآيات المحكمات:
}وما الحياةُ الدّنيا إلا لَعِبٌ ولهوٌ وللدّارُ الآخرةُ خيرٌ للذينَ يتّقونَ أفلا تَعقلونَ
}وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ
}كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار
وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور.
فالحياة هي الامتحان والصعاب، واليسر والسرور. نهاية الامتحان هو الرحيل الأبدي عن الدنيا، حيث تسلّم ورقة الإجابات وتنتظر النتيجة. كلّ عبدٍ يعيشُ السّراءَ والضراءَ في آن واحدٍ. مجمل السراء أضعاف الضراء، ولكنّ الناس لا يعلمون. ألهتهمُ الأحلامُ وجمالُ الدنيا والفتنُ والغرورُ والغرائزُ التي يقودها الشيطان. إذا أصابتهم حسنة يفرحون بها وإن أصابهم سوء بأيديهم أو خارج أيديهم فهم يائسون وحزينون وكثيرو الشكوى، بل منهم من ينتحر لعسرٍ أو ضيق. هذا يحدث لأن توقعهم من الدنيا هو الخلود والثراء والسلطة والاشتهار: (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ). حتّى أعمالهم المفيدة وعلومهم العالية تقودها هذه النوازع والشهوات.
فقلتُ في قصيدة عن الحياة ونهايتها ومجرياتها:
هذي الحياة فلا همّ يفارقُها
ولا سُقامٌ، ويعلو الحزنُ أسوارا
الناسُ تحيا كأنّ الدهرَ مؤتمنٌ
والموت تنسى وفيهم طالَ أطوارا
شكوى الإنسان هي الصوتُ الذي يظهرُ المشاعرَ المكبوتة وفقدان الصبر في المصائب والأحزان. في طيّاتها طلب المساعدة والعون بسبب عدم التحمل، وتدل على ضعف الإنسان وقوة العاطفة والاستجابة للظروف الخارجية. في الشعر العربي لعب شعر الشكوى دوراً بارزاً في أبجدية الشعر العربي وأغراضه وأساليبه. وقد ظهر شعر الشكوى منذ القدم، لأن حياة الإنسان مزيجٌ من الحزنِ والفرحِ، بل في معظمها انكسار وشعور بالضعفِ والوهنِ من صروفِ الدهر. هذا النمطُ من الشعر يرسمُ حالة البشر ومعاناتهم بأصدقِ وأروعِ وأتقنِ أحاسيس ومشاعر وتعابير رُسمت بقلمِ الشعراءِ والكتابِ والمفكرين، بل حتّى على ألسنة العامةِ من الناس. أُلّفت كتبٌ كثيرةٌ عن شكوى الشعراء. وهنا أذكر نماذج من الأبيات فيها الشكوى لبعض الشعراء في عصور مختلفة:
في العصر الجاهلي يقول امرؤ القيس:
عُوجا على الطَّللِ المحيلِ لأننا
نبكي الدّيارَ كما بَكى ابنُ خذام
وأما زهير بن أبي سلمى فيقول في الشكوى من الزمن:
يا دهر، قد أكثرت فجعتنا
بسراتنا، وقرعت في العظم
وسلبتنا ما لست معقّبه
يا دهر، ما أنصفت في الحكم
أما الأعشى الكبير فيقول عن الموضوع نفسه:
لعمرك ما طول هذا الزمن
على المرء إلا عناء معن
يظل رجيماً لريب المنون
وللسقم في أهله والحزن
وعن ذهاب الشباب يقول أبو العتاهية:
لَهفي عَلى وُرقِ الشَّبابِ
وغُصونِه الخضرِ الرِّطابِ
ذَهَبَ الشَّبابُ وَبانَ عنّي
غَيرَ مُنتظرِ الإيابِ
ويقول عن علاقته بالناس أيضاً في قصيدة أخرى:
فَيا رَبِّ إِنَّ النَّاسَ لا ينصِفونَني
وَكيفَ وَلَو أَنصفتهم ظَلَموني
وَإِن طَرَقَتني نَكبةٌ فكهوا بها
وَإِن صَحَبتني نعمةٌ حَسَدوني
وعن الشكوى يقول أبو تمام هذا البيت الجميل:
شكوت وما الشكوى لمثلي عادة
ولكن تفيض النفس عند امتلائها
وفي الأندلس يقول ابن زيدون، بعد أن فقد وزارته ودخل السجن:
هل تذكرون غريباً عادَهُ شجنُ
مِنْ ذِكْرِكُمْ وجفا أجفانَهُ الوسَنُ
يُخفي لواعجَهُ والشوقُ يفضحُهُ
فقد تساوى لديه السرُّ والعلَنُ
فبِتُّ أشكو وتشكو فوقَ أيكتِها
وباتَ يهفو ارتياحاً بيننا الغُصُنُ
وعن الشكوى يقول المتنبي في إحدى قصائده المشهورة:
بِمَ التعلُّلُ لا أهلٌ ولا وطنُ
ولا نديمٌ ولا كأسٌ ولا سكنُ
فما يدومُ سرورٌ ما سُرِرْتَ بهِ
ولا يردُّ عليكَ الفائتَ الحزنُ
لا يوجد إنسانٌ بدون عسرٍ في مجملِ حياته. والعسرُ يحتاجُ إلى الصبرِ والعملِ بالأسبابِ والتوكل على الله. يحتاجُ المعسورُ إلى حنانٍ ورحمةٍ ومساعدةٍ من الآخرين. ولكنّ أكثر الناس لا يفرحون لفرح الآخرين ولا يحزنون لحزن الآخرين، تسوقهم المظاهرُ والعرفُ الاجتماعي، ونادراً ما تسوقهم مخافة الله أو يسوقهم ضميرهم. المعسورُ مكسور، والناسُ المحبون له هم إيضاً مكسورون بعسره. الله سبحانه وتعالى يريدُ أن يعرف ماذا يفعلُ الناسُ تجاه المعسور، وكيف يؤدّون ما أمرهم به من صلة الرحمِ والتراحمِ بين الناس. فعن تعامل الناسِ مع المشتكي يقول الإمام الشافعي هذه الأبيات الجميلة:
ولما أتيت الناس أطلب عندهم
أخا ثقةٍ عند ابتلاء الشدائد
تقلبت في دهري رخاء وشدة
وناديت في الأحياء هل من مساعد؟
فلم أرَ فيما ساءني غير شامتٍ
ولم أرَ فيما سرني غير حاسد
معظمُ الناس لا يفقهون بأنّ الدنيا دار مشاكل وامتحانٍ، لأنّهم إمّا مؤمنون بحقيقة الحياة وفحواها لإيمانهم بالله تعالى، وهم قلة قلية؛ وإمّا غير مؤمنين بأن الحياة امتحان بسبب عدم إيمانهم بالله إيماناً فعّالاً، أو لأنّهم ملحدون. الاختبار قد يكون في العسر أو اليسر. بعض الناس يسقط في العسر، ولكنْ ينجح في اليسر: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ).
في العسرِ نحتاجُ الدعاءَ والتوكلَ على الله تعالى، والأخذ بالأسباب. يجب طرق باب الغير؛ لإلقاء الحجةِ عليهم، وكشف مدى إيمانهم وتطبيقهم لتعاليم الله تعالى في تقديم المساعدة والعون للمعسور؛ فإن رفضوا العون فلا ذلّ للمؤمنِ، لأن العون الأساسي يطلب من الله تعالى، ولكن الذلّ يشعر به مَنْ إيمانه قليل، أو أنّه أساساً غير مؤمن، ويحصر حلّ أموره بيد من يراهم قادرين على مساعدته من البشر. الصبرُ على الصعاب أصدق من الشكوى، انظر إلى أبيات الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الصبر على البلوى:
تنكر لي دهري ولم يدرِ أنني
أعز وروعات الأمور تهون
فظل يريني الخطب كيف اعتداؤه
وبت أريه الصبر كيف يكون
وقد قلت أيضاً في إحدى قصائدي:
الصبرُ أصدقُ من شكواك للبشرِ
إلى حسودٍ أتت أو شامتٍ قذرِ
لله أشكو ومن غير الكريم له
حكمٌ على الناسِ والمكتوبِ والقدرِ
واجعلْ لنفسك عزاً حين تسأله
فذلّةُ النفسِ من شكواك للبشرِ
كلّ جوانب الحياةِ امتحانٌ ودروسٌ وتنبيهٌ وتقويمٌ مستمر من الباري عزّ وجل. الشكوى شعور لا يمكن تجاهله، وأعظم وأصدق شكوى هي الشكوى لله تعالى، ولكنْ مع الأخذ بالأسباب البشرية والمادية: (قالَ إِنَّما أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ)
وقال ابو العتاهيه في الشكوى لله تعالى:
إِلَى اللهِ فِيمَا نَالَنَا نَرْفَعُ الشَّكْوَى
فَفِي يَدِهِ كَشْفُ الْمَضَرَّةِ وَالْبَلْوَى
خَرَجْنَا مِنَ الدُّنْيَا وَنَحْنُ مِنَ اهْلِهَا
فَلَا نَحْنُ فِي الْأَمْوَاتِ فِيهَا وَلَا الْأَحْيَا
ورغم العسر والبلاء فإنّ الدنيا جميلة وثرية وممتعة، لذلك يحبُّ الإنسانُ الحياة، وهذا الحبّ غريزة في طبعه. وقد قلتُ في إحدى قصائدي عن محاسن الدنيا:
رغم المصائبِ في الدنيا فإنّ بها
من المحاسنِ ما ينسيك أوزارا
الرزقُ فيها وفيها للنفوسِ هدًى
فيها الدعاءُ يحيلُ الليلَ أسحارا
يسمو الجمالُ بخلقِ الله مزدهراً
على البساتين يعلو الغيمُ أمطارا
علينا أن ندرك بأنّ الدنيا معبرة إلى الآخرة، ونتوقع المحن والابتلاءات في أي وقتٍ، وأن نجعل من الصبر والأمل ما يدفعنا للعيش في الحياة وإعمارها حتّى في أصعب الأمور. يجب أن نعرف بأنّ كل الناس في اختبارٍ ومحنٍ، ولا يوجد أحدٌ سليم معافى وحقّق كل ما يصبو إليه.
وفي شعر الشكوى كتبت قصيدة بعنوان (شكواك للناس):
ألا خبرت بما في الناس من سأمِ
ومن كروبٍ ومن غمٍّ ومن ألمِ
ترى العبادَ ودنياهم تقلّبهم
مثل الدواليبِ لم تثبتْ على قدمِ
كالحَبّ باتوا ودنياهمْ كمطحنةٍ
والحَبّ فيها بأيدي الغيبِ واللَؤُمِ
يبنون دنيا بما تهواه أنفسهمْ
ويعجزون عن التخليقِ من عدمِ
يبنون دوراً وهم كالضيفِ مرتحل
لم يعلُ قصرٌ بهم دهراً ولم يدُمِ
الدور تُبنى ومَن شادوا بمقبرةٍ
والغيرُ يملكها ورثاً مع الحرمِا
لخلقُ تحيا وهم لاهون عن قدرٍ
يوماً يلاقيهُمُ من غير معتصمِ
عاشوا بلا هاجسٍ والموتُ يطلبهم
والهمَّ عاشوا على فانٍ ومنصرمِ
لا تفشِ للناس سقماً أو مواجعه
لا يعرفُ الوجعَ المأمونُ من سقمِ
إذا شكوت لهم يبكون في علنٍ
وفي الخفاءِ همُ كالذئبِ والغنمِ
هم شامتون قلوباً والوجوه فمٌ
تحكي التعاطفَ في ودٍّ ومختصمِ
ظنوا المواجع عن أحوالهم بعُدتْ
والغمّ عنهم بعيدٌ غير محتكمِ
عاشوا كأنّهمُ للخلْدِ قد خُلقوا
وهم لسيف المنى باتوا بلا عصمِ
لغير ربّك تدعو كشفَ فاجعةٍ!
والله يكفي بلا سؤلٍ مُنى الأممِ
شكواك للناس ذلٌّ حين يسمعها
قليلُ أصلٍ وشمّاتٌ وذو شؤمِ
لِمنْ دعوت؟ فلا تغترْ بمظهرهم
فهم بوجهٍ بضيقِ الحالِ مبتسمِ
الكلُّ حولك مفتونٌ وممتحنٌ
فما خلا الناسُ من كرْبٍ ومن سأمِ
لو تخبرِ الناس عمّا فيك من نعمٍ
كعارضٍ لحمه للأُسدِ والرخَمِ
لله فاشكُ ولو عانوك في فزعٍ
فكلّ عونٍ بدون اللهِ منهدمِ
فلو عرفت بما في الناسِ من محنٍ
لعشت شكراً على ما فيك من نعمِ