مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

حضارة الغرب.. وهبوب العصر (9)

وقد أصبح الإنسان عندها في مرمى القصية،
لا تلتفت له إلا وقت الرزيّة،
امتلأت مستودعاتها بالأسلحة،
وخوت مستشفياتها من الأدوية،
اتجهت للعلم فكثرت معاملها،
حَلَّقت في الفضاء عالياً،
كما غاصت في قاع البحار،
ونسيت المشي على الأرض -أديمها-
لقد انتهى الإنسان عند حضارة تهتم بالمعامل وبالمصانع وبكل ما يُدمِّر ويقضي. إن الإنسان في ظلال هذه الحضارة (وكما قال ليو شيتراوس): إمّا للأعلى أو للقاع، وهذا الأخير هو الأحط والأوضع، هو إنسان القطيع بلا مُثل عليا ولا طموحات، لكنه جيد التغذية، حسن المسكن والملبس، مطبب من طرف أطباء عاديين كما من طرف أطباء نفسانيين، وهذا الإنسان هو إنسان ماركس المستقبلي منظور إليه من وجهة نظر لا ماركسية. (1)
إنه في الوقت الذي وصلت فيه حضارة الغرب إلى غاية، نجد أن الإنسان فيها لم يعد يفهم ما يريد، ولم يعد يعتقد أن بإمكانه أن يعرف ما هو خير وما هو شر، ما هو صحيح وما هو خاطئ (2)، وما ذلك إلّا أن حضارته قد نسيته. قال المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي في كتابه (دراسة التاريخ): إن الحضارة العظيمة تحمل في طياتها أسباب زوالها.(3) ولعل من أسباب زوالها: نسيان الإنسان، إذ ركزّت على المعرفة التي هي نتاج (العلم)، والعلم كفيل أن يصنع طبيباً، أو محامياً أو مهندساً، لكن لا يصنع إنساناً. إن الثقافة وحدها هي التي تؤنسن.(4)
إن مفكري الغرب قد شعروا بهذا الواقع، قال أرنولد توينبي: سوف تنهدم الحضارات التي تقوم على الانحرافات الكبيرة. لذلك فعندما أرى ما يحدث في العالم الآن من ظلم، وقتل، وشذوذ، وإباحة المعاصي بزعم الحرية، أسأل الرب السلامة. فقد درست (52) نوعاً من أنواع المدنية والحضارة ووجدتها كلها ضاعت لمَّا انهار العامل الأخلاقي.(5)
كما أن المفكرين غير توينبي قد اتجهوا في مؤلفاتهم إلى اتجاهات جديدة، شاعرين بركود حياتهم الفكرية، وأن ليس بالإمكان الزيادة على ما كان، فألّفوا في مختصر العلوم، وهذا ما نجده في الكتب:
- مختصر تاريخ اللغة/ ديفيد كريستال
- مختصر تاريخ الأدب/ جون سذرلاند
- مختصر تاريخ العلم/ جيرمي بلاك
وكأنهم يمرون بما مَرَّت به حضارتنا أيام الدول المتتابعة حيث ظهرت مختصرات العلوم من موسوعات وغيرها من الملخصات.
أقول: مثلما قال الشاعر العربي (أحمد شوقي):
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
أو كما قال الشاعر أبو تمام (قبله):
فلا والله ما في العيش خير
ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
والخالق جلّت قدرته قد قال في محكم كتابه: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً) آية 16 من سورة الإسراء.
نسأل الله اللطف والرحمة ونحن نعيش في عصر كثرت فيه المهلكات.


(1) مقالة في (المعرفة) موقع Marefa.org بقلم ليو شتراوس
(2) من موجبات الحداثة الثلاث. ليو شتراوس، عُرض في مجلة الجابري (حكمة) وبترجمة مشروحي الذهبي.
(3) في مقالة بعنوان (هل نحن في طريقنا إلى انهيار حضاري؟) بقلم: ليوك كيمب (خبير في عوامل انهيار الحضارات) من موقع B.B.C الإخباري العربي.
(4) انظر مجلة (الثقافة العالمية). ع 179 سبتمبر/ أكتوبر 2015م الصفحات 37,121، (تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب) الكويت.
(5) من موسوعة (دراسة التاريخ) لأرنولد توينبي

ذو صلة