من من العراقيين لم يسمع بقصيدة (الريل وحمد)؟ للشاعر المبدع مظفر النواب، وقد غناها بامتياز المطرب ياس خضر، يقول مطلع القصيدة: مرينا بيكم حمد وحنا بغطار الليل.. (الغطار) هو القطار باللهجة العراقية الجنوبية
وسمعنا دكك كهوة، وشمينا ريحة هيل..
أنقل جزءاً من قصتها عن (منتديات نبع الفرات)، حيث كتب بهلول الرشيد يقول: كان مظفر النواب مسافراً بالدرجة الثالثة في القطار.. وكانت تجلس أمامه امرأة أربعينية جميلة الملامح والقسمات، ولكنها كانت متعبة ويجافي عيونها النوم. فتحدث معها وحكت له قصتها. كان القطار يمر بقرية تسمى (أم الشامات).. فكان يبطئ وﻻ يتوقف.. وفي هذه القرية أحبت هذه المرأة ابن عمها.. واشتهر حبهما، ولكن لم يتم تزويجهما (لخلافات عائلية غالباً).. وحسب العادات والأعراف القبلية.. كان لا بد لها من الاختفاء فاضطرت المرأة للهرب إلى بغداد.. وعاشت حياتها هناك.. وكلما صعدت قطار الجنوب ومر القطار بهذه القرية.. يمر بمضيف حبيبها.. فتعود إليها ذكريات حبها القديم ولوعته، وهكذا تراءت الصور الشعرية أمام شاعرنا المبدع مظفر النواب فطفق يصف مشاعرها. (انتهى النقل)
وبمقدمة قصيرة وسريعة أقول: من منا لم يستعذب طعم القهوة العربية؟ ومن منا لا يتوق لها عند شم رائحتها، حتى ولو من بعيد؟ خصوصاً إذا كانت ممزوجة بالهيل الذي يجسد فيها بعدها العربي، وقد تم تحضيرها طازجة من حب القهوة المطحون حديثاً؟
في مسرح الأغنية الكثير من حقول القمح الآيل للحصاد، وفيها يستقر طير وديع هادئ، هو طير القطا، الذي يمثل ذِكره الفاصلة الموسيقية للأغنية. وهنا تورية غاية في الإبداع حيث يشبه الشاعر شعر المحبوبة الأصفر ذهبي اللون بحقل من سنابل الحنطة الناضجة والذي ينسدل على نهدين كاعبين كأنهما طائري القطا وقد تكورا بغية الاختفاء بين السنابل.
تتذكر المرأة حبيبها كلما مرت بقريته، التي هي على طريق سكة القطار، وما يذكرها به، هو (دك الكهوة) أي دق القهوة وسحنها لتُحضر طازجة ممزوجة بالهيل العبق.
تناشد القطار (بما يحمله قلبها من لوعة فراق) أن يتعاطف معها وأن يصرخ (يصيح)، ولكن بصيحة قهر وحزن كي يواسيها على هجر محبوبها لها. وهنا تستدرك وترجوه أن يكون صوت صافرته بمستوى عشقها له. أي بمستوى عشقها الذي كثُر وكبُر وتشجّر (هودر). وتعود بالفاصلة التي تحاول بها التقليل من اللوعة والقهر فتخاطب القطار (الريل - وهي كلمة إنجليزية الأصل (Rail) كثيرة الاستعمال في جنوب العراق)، بأن هناك طائر (القطا) الهادئ النائم، وترجوه ألا يوقظه بصفيره المتواصل.
تتذكر حبيبها (وتتغزل بجماله) فالخواتم التي يلبسها (المحابس) من شذر (وهو حجر شبه ثمين أزرق اللون غالباً). وإن كانت (الخزامة)، وهي حلقة تضعها المرأة الجنوبية في أنفها كنوع من الزينة، إلا أن سياق القصيدة يلقي بجماله على وصف المحبوب وكأن (الخزامة - وإن لم توجد للرجال) قد زادته جمالاً.
تعود الحبيبة المكلومة لتناشد القطار (الريل- Rail) أن يبطئ أكثر من المعتاد عند وصولة لقرية حبيبها (أم الشامات)، لأن من المعتاد أن يبطئ القطار عند كل محطة حتى وإن لم يقف بها، والسبب لتلك المناشدة (أن قلبها لا يزال ينبض بحبه، ولم يمت (بعد ما مات). وتعود فاصلة (طائر القطا) لتخفف من وتيرة الحزن قليلاً، إن كان لذلك سبيلاً. تخاطب القطار قائلةً: مر بمحطة (أم الشامات)، ولكن لا تنزع عنك ثوب حزنك، بل أضف إليه (ونين الحسرة والألم)، والسبب أن أهلها وأهله الذين تكاتفوا على تفريقهما، (ما) لم يتركوا لهماً وقتا للفرحة، ونسوهما، وعليه (عيب) أي لا يجوز أن (تتونسين) أي تفرحين يا نفسي الثكلى - الفاقدة لمحبوبها.
تنتقل للدعاء على القطار أن تتوقف محركاته (جيّم حزن)، وتتعطل سواء من الصدأ أو الحرارة، أو لأي سبب آخر، وهنا تدعو عليه أن (يجيّم) تعاطفاً مع شدة حزنها على فراق حبيبها. أما تعليلها لهذا الطلب فهو لأن (أهل الهوى) أي غيرها من المحبين، قد توقف وتلاشى عشقهم، فهم (مجيمين). وبعد بلوغ حزنها ذروته تعود لتتذرع بوجود (طائر القطا) بين سنابل القمح الجاهزة للحصاد، وتطلب من القطار أن يهدئ من سيره ويخفض من صوته (كي لا يوقظه).
(الدغش) هو السقط من أي شيء والذي ليس له قيمة، وهنا تخاطب القطار وتعتب على حبيبها الذي لا يعاني من شيء مما بها (فهو، وحبه لها لا شيء، ولا يقارن بمقدار حبها له - أي أن حب حبيبها مقارنته بحبها له هو عبارة عن دغش)، كما أثبتت الظروف، وجذابي (بالجيم المضخمة) أي كاذب. وفي مثل هذه الحالة كيف سيصفى لها شراب أو يهدأ لها بال؟ فالحل: أن تطلب من القطار، مرة أخرى أن يستمر بالمسير بها (دك بيّ طول الوكت) لا لفترة محددة ولكن إلى ما لا نهاية، حتى تجد روحها ضالتها النهائية في الموت فتزهق (علها ترتاح من عذاب فراقها لمحبوبها). وحتى لو كانت السفرة ليس ذات نهاية، فكأن روحها المعذبة التي أحرقها (الحب) تشابه الجرح المفتوح عند وضع العطابة عليه، و(العطاب) هي الخرقة البالية التي تحرق وتوضع على جرح أملاً في إيقاف نزيفه، وهي عادة شائعة في جنوب العراق، وحتى في بعض مناطق الوسط، أي أن حرارتها لن تتوقف وستظل تلسعها (طوال ما تبقى لها من رمق في الحياة!). تعود للقطار وتخاطبه: (أنت في رواحك ومجيئك) كنت قد ألفت طريق (درب) أم الشامات، وأنا كذلك لكثرة ما ركبتك كي تقربني ولو قليلاً من مضيف الحبيب، لأسمع (دك) قهوته، ولأشم رائحة الهيل المنبعثة منها.
تعود لتواسي نفسها، بعد عزوفها عن الزواج وعن عشق غير (حمد) حبيبها، فتقول: أنا مطابقة في صفاتي وفي حبي لحمد (أنا أرد ألوك لحمد)، ولن أكون مناسبة لغيره (ما لوك أنا لغيره). وهنا تتذكر طفولتها وصباها معه حينما كانا يلتقيان في باكر اليوم والجو بارد، وكانت خائفة من مراقبة أهلها وعُذالها (يجفلني برد الصبح، وتلجلج الليرة)، لعلها تعني تأثر صدرها ببرودة القلادة ذات القطعة النقدية الذهبية (الليرة) التي كانت تزين بها الفتيات جيدهن، أو ترتجف خجلاً ربما عندما كان يحاول النظر إلى جيدها.
ثم تعود لتُشهِد القطار (الريل) على مدى علاقتهما الطفولية البريئة، ففي صغرهما كانا قد لعبا لعبة مشهوة (الطفيرة)، وهي أن ينحني أحد اللاعبين ويأتي الآخر من بعد ويضع يديه على الظهر، ويقفز، ويأتي دور الآخر ليقوم بالمثل، ويمكن أن يلعبها لاعبان أو أكثر. المغزى أن لا (مستمسك) لديها عليه، إلا أنهما سبق أن لعبا (الطفيرة)، مما يدل على سذاجة حبها له وصفائه، ولا دليل لديها عليه سوى لعبة (الطفيرة).. ثم تعود لتستدرك بقافية (طير القطا)..
رغم تنصل عشيقها من حبه لها، والثمن الباهظ الذي دفعته (بمغادرة ديرتها وأهلها هرباً) فحبها له باق، فهي تتغزل بحبيبها (حمد) وتشبهه بأحلى ما تجد العربية في البادية من أدوات للتشبيه، فكأن: (جن - بالجيم المضخمة) حمد فضة (لنضارة وجهه)، ولكن ليس كأي فضة، بل الفضة التي تلبسها العروس ليلة زفافها (فضة عرس)، كثيرة الإشراق واللمعان. وكأنه (ناركيلة)، أي: الشيشة بتبغها زكي الرائحة، وقوامها المعتدل الممشوق دليل العزة والأنفة. وكذلك (مدكك بمي الشذر)، وهو نوع من الوشم أزرق سمائي اللون أو أزرق مخضر كان كثيراً ما يُستعمل زينة للنساء وللرجال، ولكن في مواضع مختلفة. (ومشله اشليله) أي حاسر عن ساعديه دليل القوة والشجاعة والمراس، وهذا من أوجه إعجابها به. تعود لتناشد القطار في تبطئة مسيرة، ولكن هذه المرة (خل أناغيله)، أي دعني أداعب (حمد) صوتياً كما تداعب الأم وليدها الصغير (وتقول له - أغووه)، عسى بمناغاتي له يحن عليّ طير القطا المختبئ ما بين سنابل القمح الجاهزة للحصاد فيأتي لمواساتي.
وتذكرها برودة الطقس بسابق لقاءاتهما في مقتبل الصباح حيث الجو البارد حينما كانت تلسع صدرها برودة (الليرة)، وتود لو تلملم يديها على صدرها لتتدفأ (ولتستتر)، وهذا حال (غالب من في الريف) حيث لا ملابس دافئة تقيهم برد الشتاء صباحاً، تعود للقطار وترجوه أن يخفف من سرعة سيره- وتتذرع بخوفها على طير القطا سبباً لذلك. وترجوه أن يخفف من صوته، كي لا يهيج بها الشوق والحزن من ناحية، ولكي يترك مجالاً للطيور (يهودرن) بمعنى يغادرن المكان بسلام.
ثم تستعير من صفات المرأة الجميلة لتزيد من حلاوة وصف حبيبها، (والحقيقة أن الكثير من الرجال في البادية دأبوا على إطلاق شعورهم لسبب أو لآخر، وهنا شعر حمد وبالأخص غرته (كذلته) بوجود النسيم العليل وشعاع الشمس النفاذ تمسي (هلاهل)، وهي الأصوات التي تطلقها النساء في الأفراح ولها صوت آسر جذاب. تتصور أن شعر حبيبها (لطوله) كأنه (شلايل - جمع شليلة) أي حزم من نسيج من الخيوط الناعمة جداً، والتي تقارب الحرير في جودة ورقة ملمسها (ويسمى البريسم). وتستدرك بأن (للبريسم) سولة (أي عادة) وهي أن يتناغى (أي يتناغم) مع المشط الذي يمر عبره، زيادة في تغنجها وتمادياً في رقة وصف حبيبها. تعود وتعتب عليه لعدم سؤاله عنها -وصبره على ذلك- (خلكك شطوله)، في حين هي قد ذبلت حزناً وأسى عليه! أما طول صبره على عدم لقائها فهو بطول (الهواء البارد شتاءً) الذي بالحقيقة لا نهاية له، وينام طير القطا تفادياً له. ولختام المأساة التي تعانيها توضح أن فرحتها (ضحكاتها) التي ملأت العيون والمباسم (والتي بنتها على حبه لها)، سرعان ما تلاشت، بل ضاعت (سيس هوانا)، أي أنها (بعواطفها وحبها تجاهه) أضحت كالقارب الصغير تحت رحمة الريح في النهر، بلا مقود يرشده (كالمجذاف، أو الدفة)، ولا محرك ينجيه من مصيره..
وتنتهي القصة بفاصلة طير القطا.