مجلة شهرية - العدد (587)  | أغسطس 2025 م- صفر 1447 هـ

موسيقى الغجر.. أصل الفلامنكو

(أنا فخورة بالفوز بالجائزة، كغجرية)..
هكذا استقبلت مونيكا لاكاتوس  خبر فوزها بجائزة وومكس العالمية، عن مُجمل إبداعاتها الفنيَّة في الموسيقى والغناء. جدير بالإشارة أن هذه الجائزة تُمنَح لمن يتركون بصمات واضحة في الموسيقى العالمية، وسبق أن فاز بها ماريزا أسطورة الغناء الشعبي في البرتغال، وشيخ لو الفنان والموسيقي السنغالي الشهير. وبحسب بالاز ويير عضو لجنة تحكيم الجائزة؛ فإن منح هذه الجائزة في دورتها الحالية للفنانة الغجريَّة المُبدِعة؛ إنما هو تأكيد على أهمية موسيقى الغجر، ومدى مُساهمتها الكبيرة في الثقافة الموسيقية العالمية.
وتنتمي مونيكا، البالغة من العمر حالياً 42 عاماً؛ إلى مُجتمع (أولاه جيبسي)، الذي لا يتجاوز تِعداد سُكَّانه 30 ألف نسمة، وهو مُجتمع غجري، هاجر إلى المجر قادماً من رومانيا المُجاورة، في القرن التاسع عشر، ويعيش مُعظم أفراده في المناطق الريفية بالشمال الشرقي من ناجيشيد، التي تبعُد عن شرق العاصمة بودابست بنحو 250 كيلو متراً.
وقد أحبَّت مونيكا مُنذ نعومة أظافرها إرثها الموسيقي التقليدي، وسعت إلى تعلُّم ألحانه من أقربائها، وسُرعان ما صدحت بموهبتها، وذاعت شُهرتها، وبخاصة بعد أدائها الرائع في أحد برامج التليفزيون الوطني عام 1996م، ولم تكن قد جاوزت 17 ربيعاً. وهي تُشكِّل ثنائياً موسيقياً استثنائياً، بصُحبة زوجها مازي روستاس، ضِمن فِرقة (رومنجو) الشهيرة، بينما ابنتها، وهي موهبة صاعدة بقوَّة، انضمَّت إلى مجموعة (جيبسي فويسز) الموسيقية للمواهب الشابة.
وقبل أن نتعرَّف على أبرز سِمات وخصائص موسيقى الغجر، وتأثيراتها على نشوء موسيقى الفلامنكو؛ نُلقي قليلاً من الضوء على أصول شعب الغجر، وترحاله: تتفِق عِدة مصادر تاريخية، على أن أصول الغجر تعود إلى قبائل تدعى الجاتس، وهي التي استوطنت شِبه القارة الهندية، وبخاصة المناطق المُتاخِمة لنهر الأندوس، وتمددت فروعها إلى مناطق في وسط آسيا، وشمالها. وبدؤوا في هَجر أراضيهم منذ القرن الرابع الميلادي، حيث اتجه أغلبهم ناحية الشرق، إلى أن وصلوا العراق، وبلاد الشام، وهضبة الأناضول. وفي أواسط القرن الخامس عشر، وصل بعضهم إلى ريف صربيا ورومانيا، ثم إلى المجر، وباقي مناطق البلقان، وامتد ترحال آخرين منهم إلى روسيا وبولندا والسويد.
وفي القرن السادس عشر، بلغوا إنجلترا وإسبانيا والبرتغال، بل عبر كثير منهم إلى ما وراء الأطلسي، وبالرغم من شتاتهم وترحالهم هذا، إلا أن ثمة قواسم مُشتركة بينهم، مازالت قائمة إلى الآن، منها تمسكهم بعاداتهم وتقاليدهم، وأغلبهم مازال محافظاً على التحدُّث بكلمات لغته الأم، وهم راضون بالتقشف، ومُمارسة المِهن اليدوية البسيطة، والعيش دائماً على هوامش المدن والحضر، وهم عاشقون للفنون، وبخاصة الموسيقى والغناء.
ويُقدَّر التِعداد الكُلِّي للغجر في العالم، بما يزيد عن عشرة ملايين نسمة، أغلبهم من الروما المُتجوِّلين في أوروبا، والذين تعرَّضوا لظلم كبير، إبان انتشار الفاشية والنازية، وقليلهم من النوار، والكاولية، والدومر، في مناطق الشرق الأوسط، وتنتمي إليهم أيضاً قبائل الكالو، واللولي، والزط، والمنهار، والكاربات، والفلاكس، واليرك، والزرغر، والزنجاني. وللتذكير بمُعاناة الغجر حول العالم، أقرَّت الأمم المتحدة، في العام 1992م، يوم الثامن من أبريل كل عام، يوماً عالمياً للغجر.
ولشعب الغجر تاريخ موسيقي مُشترك، حيث ينظرون إلى الموسيقى بقداسة، والآلة الموسيقية عندهم، هي بمثابة روح الغجري التي لا تفارقه، ولا يستغني عنها، كونها امتداداً لكُل أفراحه وعذاباته، التي يُلاقيها في حِله وترحاله، ومُخالطته لكُل أجناس البشر. ومُنذ القرن السابع عشر اتجه الغجر إلى التنويع اللحني في موسيقاهم، والتي حظيت بالقبول والإقبال من جانب شعوب العالم، وكانت بعض الجيوش، تستعين بفِرق الموسيقى الغجرية، للسير معها للترفيه، وبث الحماس ورفع الروح المعنوية لدى الجُند. لقد انتشرت الموسيقى بين عموم شعب الغجر، على نحو لا مثيل له بين الشعوب الأُخرى، حتى صارت مِهنة، يكتسب منها الغجري قوت يومه. وبحسب غير واحد من مؤرِّخي الموسيقى العالمية، فإن القرن التاسع عشر، يُمثل العصر الذهبي للموسيقى الغجرية.
ومن أهم سِمات وخصائص الموسيقى الغجرية، التي مازالت تحتفِظ بأصولها، بالرغم من التنوُّع اللحني، والتوزيع الإيقاعي، من منطقة جُغرافية لأخرى؛ قُدرتها على استيعاب عدد كبير من الآلات الوترية (البزق، والربابة، والعود.. وغيرها)، والإيقاعية (الطبلة، والدُف، والرِق.. وغيرها)، وآلات النفخ الهوائية (الناي، والمطبك، والمزمار.. وغيرها)، وكذا دخلت أدوات كآلات، مِثل الجرار المائية، والملاعق، والأحواض الخشبية، بالإضافة إلى الأصوات والنغمات التي تؤدَّى عن طريق الفم، ويطلقون عليها اسم (فوكل باسينج)، وهي تشبه نغمات الآلات الإيقاعية، وأصوات الطبيعة، كتلك الصادرة عن الطيور، أو حركة أمواج البحر.. ونحو ذلك. وأغلب موسيقى الغجر قصيرة المَقطع، ثريَّة اللحن، ذات طابع حزين، وإيقاع راقص، تقول إيلينا بيتروفيتش، الباحثة في تاريخ الغجر: (إن الموسيقى هي روح الغجر الخلاقة، التي يتغلبون بها على أحزانهم).
ومن الأمور المُهمَّة التي تجب الإشارة إليها حِرص كِبار السِن من الغجر على نقل إرثهم الموسيقي إلى أبنائهم وأحفادهم شفهياً، وعلى نحو ارتجالي، بشكل يومي، في إطار تعليمهم دروس الحِكمة والموعظة. ومع ما تحمله من تعابير الحُزن والمُعاناة والرثاء إلا أن المُتَّسع في التنوُّع اللحني والتوزيع الإيقاعي الذي تتميَّز به؛ جعلها أيضاً موسيقى رومانسية حالمة، وحماسية تبث روح الأمل، وتدفع نحو التفاؤل لغد أفضل. وفي الإطار الملحمي والشعبي تؤدَّى في طقوس أعياد الميلاد، والحفلات الخاصة، والمُناسبات العامة، وتُمجِّد سيَر الأبطال المحليين، وإبراز صفاتهم. ولا توجد حفلة مِثل أُخرى، في طريقة أداء مُقدِّمة ونهاية القِطعة الموسيقية، وهذا من دلائل التنوُّع في الآلات المُستَخدَمة، وثراء الفِكر الموسيقي الجماعي لدى عموم العازفين.
لقد أثرت الموسيقى الغجرية على الموسيقات المحلية للشعوب القريبة من الغجر، حيث تركت موسيقى الغجر بصمات قويَّة على الموسيقات الشعبية، وبخاصة ما يُعرف بموسيقات الريف، في مناطق المغرب العربي، وكذا الموسيقات البدوية، في العراق، وبلاد الشام، ومناطق مُتفرِّقة من أوروبا، وقد تجاوزت هذه التأثيرات إلى ما وراء الأطلسي، حيث نجد تأثيراتها واضحة على الموسيقات الشعبية في البرازيل والكاريبي.
ومن رحِم الموسيقى الغجرية، ولِدت واحدة من أهم الموسيقات الشعبية الأشهر في العالم، وهي موسيقى الفلامنكو، التي ظهرت في إسبانيا، أواخر القرن الخامس عشر، إبان حُكم الملك فرديناند والملكة إيزابيلا، وسُرعان ما انتشرت في عديد من المناطق الإسبانية، وبخاصة منطقة كاديز، وخيريز دي لافرونتيرا (شريش)، وتريانا بالقرب من إشبيلية، وصارت مُصاحبة للرقص الفلكلوري الإسباني، الذي يؤدَّى في عموم البلاد، حيث تمتزِج نغمات الجيتار، مع التصفيق الإيقاعي بالأيدي، حتى أصبح لهذا الفن الموسيقي مُلحنون كِبار من أمثال جوليان أركاس. وبحسب عدد من المصادر التاريخية، فإن غجر الكاليه، الذين عاشوا في أسبانيا إبان الحُكم الإسلامي؛ كانوا أوَّل من أسس فِرقاً موسيقية راقصة، تجوب المناطق المُختلفة، لتقديم عروضها، التي كانت تحظى بإقبال جماهيري واسع.
إن الإرث الموسيقي الغجري، الذي نجحت الأجيال المُتعاقبة في تناقله؛ مازال مُحافظاً على بريقه، ووصلت شهرته إلى العالمية، بفضل جهود فنانين كِبار أسهموا في تطويره، ليواكب العصر، دون أن يفقد أصالته. ويُشار إلى الفنان يانوس بهاري، مؤلِّف المقطوعة الموسيقية الشهيرة (بهاري نوتة)، في العام 1808م، باعتباره أحد أهم العلامات المُحافِظة على خصوصية الموسيقى الغجرية، ومنع انصهارها في بوتقة الموسيقات المُهجَّنة، للشعوب التي خالطها الغجر، ويُنسَب إلى هذا الفنان تأليف مقطوعة (راكو سيزي مارش)، بالمُشاركة مع فرانز ليست، والتي تطوَّرت لاحقاً لتُصبح النشيد الوطني لجمهورية المجر.
ومن الأعلام البارزين في تطوير موسيقى الغجر، ووصولها إلى العالمية:
دجانغو راينهارت العازف الأسطوري على آلة الجيتار، والذي يُصنَّف ضِمن أعظم الموسيقيين في العالم، ويعود الفضل إليه باعتباره مؤسس ومُطوِّر موسيقى الجاز الغجرية.
ليدا غولسكو، الروسية من أصول غجرية، وهي ابنه عازف الكمان الشهير جان غولسكو، والتي وصلت شهرتها في الغناء والموسيقى الغجرية إلى الولايات المتحدة الأمريكية وكندا.
ماتيلو فيريت، وهو أحد أبرز روَّاد موسيقى الجاز الغجرية.
روميكا بوتشينو، الفنان الغجري الروماني، الذي حظيت حفلاته بإقبال جماهيري كبير.
عازف الكمان الشهير روبي لاكاتوس.
أسماء رجبوفا التي حرصت على الأداء الموسيقي والغنائي باللغة الغجرية، في عموم منطقة البلقان، وخارجها أيضاً.
عازف الجيتار ماشاتشان، والبارع على آلة الكمان كارلو فارغاً.
إيزما ريدز يبوفا المُلقَّبة بملكة موسيقى الغجر، والتي امتدت مسيرتها مع الموسيقى لأكثر من نصف قرن، قبل وفاتها في مقدونيا عام 2016م، عن عُمر يُناهز 73 عاماً، وكانت الإذاعة الوطنية الأمريكية قد وضعتها ضِمن قائمة أعظم 50 صوتاً.
ساندور جاروكا عازف الكلارينات، الذي ساهم في تأسيس الأوركسترا السيمفوني في بودابست، وأقام حفلاته على مدار أكثر من رُبع قرن، في العديد من دول العالم.

ذو صلة