مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

سجع الكهان

كان في العصر الجاهلي طائفة تزعم أنها تطّلع على الغيب وتعرف ما يأتي به الغد بما يلقي إليها توابعها من الجن، وكان واحدها يسمّى كاهناً كما يسمى تابعه الذي يوحي إليه باسم (الرَّئِيِّ). وأكثرهم كان يخدم بيوت أصنامهم وأوثانهم، فكانت لهم قداسة دينية، وكانوا يلجؤون إليهم في كل شؤونهم، وقد كانوا يتخذونهم حكاماً في خصوماتهم ومنافراتهم، وكانوا يستشيرونهم ويصدرون عن آرائهم في كثير من شؤونهم كوفاء زوجة أو قتل رجل أو نحر ناقة، أو قعود عن نصرة أحلاف أو نهوض لحرب.
ويروي ابن الأثير أن أحد الكهنة ويدعى شافع بن كليب الصدفي يتكهن بظهور النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: (قدم على تُبّع الآخر ملك اليمن، قبل خروجه لقتال المدينة شافع بن كليب الصدفيّ، وكان كاهناً، فقال له تُبّع: هل تجد لقوم مُلكاً يزيد عليه؟ قال: أجده لبارٍّ مبرور، ورائد بالقهور، ووصف في الزبور، فضلت أمته في السفور، يفرّج الظلم بالنور، أحمد النبي، فإذا هو يجد صفة النبي صلى الله عليه وسلم).
فمنزلة الكهان إذن في الجاهلية كانت كبيرة، إذ كانوا يعتقدون أنهم يوحى إليهم، ولعلّ هذا ما جعل نفوذ الكاهن يتجاوز قبيلته إلى كثير من القبائل التي تجاورها، ومن ثم كان العرب يقصدون كثيرين منهم من مناطق بعيدة، ومما يلاحظ أنهم كانوا يكثرون في اليمن وفي بيوت عبادتها الوثنية، وبخاصة من يتعمقون في القدم، ولعلّ في ذلك ما يدل على الصلة القديمة بين وثنية عرب الجنوب وعرب الشمال. وتلقانا في كتب التاريخ والأدب أسماء كثيرين منهم، وقد يبالغ القُصّاص فيرسمون لبعضهم صوراً خيالية، فمن ذلك: أنّ شِقَّ ابن الصعب كان شق إنسان أو شطره، فله عين واحدة ويد واحدة ورجل واحدة، وأنّ سطيح بن ربيعة الذئبي لم يكن فيه عظم سوى جمجمته وأنّ وجهه كان في صدره ولم يكن له عنق وربما كان أحدب!
هذا، وقد كان الكهان في الجاهلية يعتمدون على السّجع في كلامهم، وقد اختلط الأمر على بعض قريش في أول نزول الذكر الحكيم، فقرنوه بسجع كهنتهم، ورد عليهم القرآن الكريم بمثل قوله عز وجل: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ. وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ).
ولو نظرنا إلى سجع الكهان للاحظنا أنهم لم يكونوا يسجعون فحسب، بل كانوا يعمدون أيضاً إلى ألفاظ غامضة مبهمة، حتى يتركوا فسحة لدى السامعين كي يؤوّل كل منهم ما يسمعه حسب فهمه وظروفه. ومن ثم دخل الرمز في كثير من أقوالهم، إذ يومئون إلى ما يريدون إيماء، وقلما صرحوا أو وضّحوا، بل دائماً يأتون المعاني من بعيد، بل قل إنهم كانوا لا يحبون أن يصوروا في وضوح معنى، ويتخذوا له أشباحاً واضحة من اللفظ تدل عليه، لأنّ ذلك يتعارض مع تنبئهم الذي يقوم على الإبهام والوهم واختيار الألفاظ التي تخدع السامع وجوهاً من الخُدَعِ، ومن ثم كان من أهم ما يميز أسجاعهم عدم وضوح الدلالة، وأنْ يكثر فيها الاختلاف والتأويل.
ويلاحظ أيضاً على سجع الكهان: كثرة الأقسام والأيمان بالكواكب والنجوم والرياح والسحب والليل الداجي والصبح المنير والأشجار والبحار وكثير من الطير، وفي ذلك ما يدل على اعتقادهم في هذه الأشياء وأنّ بها قوى وأرواحاً خفيّة، ومن أجل ذلك يحلفون بها، ليؤكدوا كلامهم وليبلغوا ما يريدون من التأثير في نفوس هؤلاء الوثنيين.
هذا، ويعدّ سلمى بن أبي حيّة أكهن العرب، ومن قوله: (والأرض والسماء، والعقاب والعنقاء، واقعة ببقعاء، لقد نفّر المجد بني العُشَراء للمجد والسناء).
كما تعدّ الشعثاء وكاهنة ذي الخَلَصَة، والكاهنة السعدية، والزرقاء بنت زهير، والغيطلة القرشية، وزبراء كاهنة بني رئام أشهر الكاهنات في العصر الجاهلي.
ذو صلة