في مدخل (زوي لاونج) المقهى ذو الطابقين بحي أبحر وهو أقرب الأحياء للواجهة البحرية لمدينة جدة، حيتني فتاة الاستقبال، قالت: أهلاً وسهلاً، حركتُ رأسي بطريقة تغني عن الكلام وابتسمت رداً على تحيتها، تقدمت لوسط المقهى وقفت أُخيّر نفسي بين الطاولات، أتفحص الطاولات كأني جيولوجي استكشافي في مهمة!، ما الشروط التي يجب أن تتوفر على الطاولة لتكون طاولتي؟!
بالمختصر أريد طاولة تناسب مزاجيتي واسترخائي وقهوتي المرة..: أهلاً وسهلاً، صدى العبارة الترحيبية المريحة التي حيتني بها فتاة الاستقبال عند دخولي (للمقهى) للزوي لاونج يتردد في أذني، التفت التفاتة قصيرة لم يكن صدى العبارة الترحيبية المريحة، بل فتاة الاستقبال بشحمها ولحمها تقف بجانبي..
قالت: إذا كنت تشرب الأرجيلة هذه الطاولة -وهي تشير إلى الطاولة التي بجانبي مباشرة- ستكون لجلستك مناسبة،
قلت: لها أنا لا أشرب الأرجيلة، وفاجأتها بقراري، سوف أجلس هناك بالقرب من الواجهة الزجاجية،
قالت: شرفتنا.. وعادت لمنصة الاستقبال. اتجهتُ إلى الطاولة القريبة من الواجهة الزجاجية، التي اخترتها بقرار مفاجئ، وسريعاً حضرت فتاة أخرى (النادلة)، مرحبة بي: أهلاً وسهلاً، فعلاً، أهلاً وسهلاً عبارة مريحة لديها نفس تأثير الفيتامينات والمعادن التي يوصي بها الأطباء لتجديد الحيوية لرجل على مشارف الستين، وكان ردي على تحيتها نفس الرد الذي كان رداً على تحية فتاة الاستقبال، حركت رأسي وابتسمت، وقبل أن تسألني ماذا سأشرب..؟، فضلاً أريد قهوة (وذ أوت شوقر) وماء بارد جداً، وأرجو أن تأتي بالماء البارد جداً أولاً، للأسف هذا أنا في الصيف درجة الحرارة المرتفعة والرطوبة تلعبان دوراً في ارتكابي بعض الحماقات!
لماذا لم أترك الفتاة تسألني؟!، هذا من أبسط حقوقها، لماذا لم أتركها تسألني؟
حين تحضر القهوة والماء البارد جداً، كيف أجعلها تسألني ماذا سأشرب؟!
ليس من المعقول أن أطلبها تسألني هذا السؤال أو أنها هي بنفسها ستسألني هذا السؤال!!
كيف..كيف..كيف؟!
والقهوة والماء البارد جداً سيكونان على الطاولة!، لم أكن مستعداً للدخول في مثل هذه الدوامة!، وِن.. وِن.. وِن.. وِن..، طبعاً، الدوامة ليس لها صوت محدد، هي تكسب صوتها من البيئة التي توجد فيها، وأنا من يحدد كيف يكون صوت دوامتي التي أنا الآن بيئتها، وِن.. وِن.. وِن..وِن، وأنا مشغول بصوت الدوامة!، أحضرت الفتاة زجاجة ماء بارد جداً، وانسحبت.. وبعد دقائق قليلة أحضرت القهوة الـ(وذ أوت شوقر)، وقبل انسحابها، قالت: هل تريد شيئاً آخر، لو أردت شيئاً آخر أمامك جرس الطلبات، شرفتنا، وانسحبت..
لكن انسحابها لم يمنعني من أن أحييها حركت رأسي وابتسمت، وأنا راضٍ كل الرضا على انتصارها وأخذ حق من حقوقها، لقد سألتني ماذا أريد؟!، والدوامة أخذت طريقاً آخر وابتعدت بحثاً عن بيئة أخرى!
الآن يمكنني أن أعود إلى نفسي، وهذا أصح الصحيح، وأن ألهو في برسيمي، أنا أفكر في السفر، ولم أقرر إلى أين!، أريد أن أكون سائحاً لأسبوعين، فقط، لأسبوعين.. موسكو أم أذربيجان أم البوسنة أم ألبانية أم.. أم.. أم أبها!!، لن أسمح للحرارة المرتفعة والرطوبة أن يكون لهما أي دور في ارتكاب الحماقات واتخاذ القرارات المفاجئة!، طبعاً، لن ألجأ للقرعة وأنا سيء الحظ جداً، هناك من يعتبر القرعة وسيلة محايدة!، في كل الأحوال لن ألجأ للقرعة لا لحظها ولا لحيادها!، ساعتان مضتا وأنا ألهو في برسيمي، ولم أصل إلى قرار!، وكأني أعيش أجواء السائح رفعت يدي وأرسلت إشارة للفتاة (النادلة) أن تحضر فاتورة الحساب، تعمدت أن أتجاهل جرس طلب الخدمة الذي على الطاولة، وبطريقة أنيقة جداً قدمت لي فاتورة الحساب، أخرجتُ بطاقة الصراف وكانت هي جاهزة بجهاز السحب، أحببت أن أؤكد لنفسي انتصارها وأخذها كامل حقوقها، ولو بسؤال عابر، سألتها زوي لاونج، ماذا تعني كلمة زوي zoe*، قالت: تعني الحياة،
وقفت إعجاباً بمعنى zoe، وما زال كوب القهوة على الطاولة، تناولت منه رشفة أخيرة مرة.. حركت رأسي ببطء جداً جداً جداً وابتسمت تحية لزوي لاونج، إنني سائح، الآن، الآن، الآن، أنا سائح!، هذه المرة الأولى التي أكون في زوي لاونج وحيداً، المرات السابقة التي جلست في الزوي لاونج يكون بيني وبين أحد الأصدقاء موعد، نجلس على طاولة غالباً يختارها النادل المختص في تقديم الأرجيلة أو الأرجيلة نفسها تختار لنا ولها الطاولة!!، لا يهم، الأهم أن أتوه عن نفسي قليلاً!، استراحة محارب، المحارب منضبط جداً، لن يترك يديه على الطاولة ويغادر بدونهما!، أصدقائي يشربون الأرجيلة، معهم لا أحرص على طلب القهوة (الوذ أوت شوقر) والماء البارد جداً، ولا ألهو في برسيمي، ولا أعيش أجواء السائح لأرفع يدي وأرسل إشارة للنادلة لتحضر فاتورة الحساب، المرات السابقة التي جلست في الزوي لاونج مع أحد الأصدقاء، حقيقة، في كل المرات السابقة، لم يخطر في بالي أن أسأل سؤالاً عابراً!
أهلاً وسهلاً.. هذه العبارة الترحيبية المريحة الساحرة التي لديها نفس تأثير الفيتامينات والمعادن التي يوصي بها الأطباء لتجديد الحيوية لرجل على مشارف الستين، لا أذكر أني سمعتها لا من فتاة الاستقبال ولا من النادلة، ولا أذكر أني حركت رأسي وابتسمت رداً على هذه العبارة المريحة الساحرة..
أتعمد أن أكون تائهاً عن نفسي قليلاً!، هادئاً ومطمئناً!، ولن أترك يديّ على الطاولة وأغادر بدونهما!
ساعة الحائط الكبيرة المعتقة، التي اشتريتها من محل لبيع الخردوات القديمة، علقتها على الجدار الداخلي المقابل لباب شقتي، طبعاً، ليس اهتماماً بالوقت، ولم أحرص على ضبط عقاربها، أسميتها zoe، الحياة!!
*zoe: تعني الحياة اسم مؤنث من أصل يوناني.