الذكاء الاصطناعي لا يترجم، الذكاء الاصطناعي لا يُحدّق في كلمة لعشرين دقيقة كما لو أن جنياً قد يخرج فجأةً ليكشف عن نظيرٍ لغويٍّ لتلك الكلمة. الذكاء الاصطناعي لا يؤجل العمل حتى آخر لحظة قبل الموعد النهائي المحدد لإنجاز أعمال الغسيل! لا يتصفح الذكاء الاصطناعي القاموس، متوقفاً للحظات ليُعجب بكل تلك الكلمات الرائعة، ثم ينسى ما كان يبحث عنه في المقام الأول. الذكاء الاصطناعي لا يكتب، ولا يضغط مسافة للخلف، ولا يعيد الكتابة، ولا يحاول مرة أخرى. الذكاء الاصطناعي لا يحذف كلمة، أو يُحدث فوضى. لا يتعلّم. لا يعيش ويتعلّم، إمّا أن يعيش، أو يتعلّم.
أجل، بالطبع الروبوتات تتطور بشكل واضح؛ يستطيع الذكاء الاصطناعي تفكيك الكلمات والجمل، بل حتى الكتب بأكملها، أسرع مما أستطيع أنا، الإنسان البسيط، قراءته وتحليله، ثم يعيد صياغتها في شكل سلسلة من الأرقام، ويفك رموز تلك المخرجات إلى مجموعة بيانات بلغة أخرى. إنه سريع، وباستثناء ذلك النوع من الهزل الناتج عن الخلط الذي ينتشر وتُصنع منه بعض (الميمز)، من قبيل ترجمة كلمة (سيرينا، حورية البحر، إنذار، جنية البحر: النظير الفلبيني لكلمة حورية البحر بالإنجليزية) على نحو خاطئ، وعجز البرمجيات المثير للقلق عن تحديد مكان وضع الفاصلة، وهذا أمرٌ جيد، لأنها قد تكون دقيقة إلى حد معقول.
الدقة عدو الفن، حتى في آلياتها ومن خلال مساراتها - طريقة تقسيمها للغة إلى أجزاء - تُخطئ الترجمة الآلية المغزى؛ فالتجزئة تُقوّض المعنى. لا أقصد فقط الفروق الدقيقة والتحولات الخفية التي تراوغ في عملية التواصل المباشر مع قواعد اللغة ونبرة التأكيد والتصريف النحوي، بل أقصد أن المعنى نفسه هو نتاج تطوّره الذاتي. قد تقرأ جملة أو فقرة خمس مرات، ولكن عندما تجلس لترجمتها، فإنك تتعلم معناها من جديد، أي أن معناها يُخلق مجدداً. كل كلمة تدلّك على وجهتك ومصدر انطلاقك، مُشكّلة النص الهدف بطريقة يستحيل التنبؤ بها من مجرد جمع أجزائه. المترجم أيضاً يصيبه بعض التغير أثناء قيامه بالترجمة، فهو لا يكتفي بفهم المعنى في أثناء سيره في العمل، بل يسمح لهذا المعنى أن يتحوّر، مولّداً المعنى الذي سيتشكل منه العمل، متغيراً بتغير المترجم نفسه. نحن كائنات آلية بالفعل (سايبورغ)، مصنوعة من لحم ولغة.
يُدير البشر المعلومات الدلالية (المحتوى ذو المعنى الدلالي للبيانات) عبر مسارات مُعقدة وواسعة النطاق، بما في ذلك التصنيفات التي تبدو سطحية (الألفاظ المتجانسة والمترادفة، على سبيل المثال). لكن هذه العملية تستعير وتقتبس أيضاً بشكل أعمق جزءاً من ذاكرتنا، ومحيطنا المباشر، وجميع فُتات المعرفة الأخرى المُخزّنة هنا وهناك، والمرتبطة على نحو عشوائي تقريباً بمعارف أخرى. الارتباط بالطبع ليس عشوائياً إطلاقاً، الكلمة التي بدأت بها هناك، قبل سطرين، والتي أصبحت (تستعير)، كانت في الأصل (تنقيب أو حفر)، لكن ذلك لم يكن دقيقاً تماماً. (كيف عرفتُ أنه لم يكن ذلك صحيحاً؟ ما تلك الغريزة التي تُشعرني بالعجز، والتي لا أستطيع أن أضع إصبعي عليها؟ لدينا كلمة (تقريباً - بالكاد)، وهي ملكة بشرية فريدة تفتقر إليها الآلات). ما كنت أسعى إليه هو الكلمة الفرنسية (puiser) التي تعني (يستخرج من)، التي توصلنا إلى سلسلة من الارتباطات، من المعنى الحرفي (بئر) إلى المجازي (يحفر)، وأخيراً (ينقب)، والتي جاءت نتيجة خطأ مطبعي أنيق، (burrow) إلى (borrows)، لتصبح (يستعير). يحدث الارتباط بسبب التوتر، من معنى صواب إلى شبه مؤكد، ممتداً من الحرفي إلى المجازي، وهو توتر يتذبذب ويتكيف باستمرار. هذا التوتر طاقة، ويغذي النص والفن.
كما أننا ننسب المعنى بناءً على كل ما جاء قبل لحظة الترجمة، فالكلمة ليست مجرد كلمة، بل هي أيضاً طفولة، إنها أول عملية اكتساب لها، وهي كل المرات التي أخطأتَ في نطقها، لأنك لم ترها إلا مكتوبة، إنها أثر باق كنصب تذكاري، إنها رسالة حب، أغنية، تهويدة، مرسوم، عظة، ومرثية. يختار المترجمون كلماتهم بعناية، مُفسحين المجال للمؤلف، ساعين إلى الحفاظ على أولوية النص الأصلي، لكن لا يمكننا محو ذواتنا بالكامل، ولا ينبغي لنا أن نرغب في ذلك، فما يُميز الترجمة كأدب ليس أمانتها، بل تعدد أصواتها.
الذكاء الاصطناعي لا يعزف بآلة المؤلف البشرية، بل هو نسخة رديئة النغمة، تقليد إلكتروني ناقص، يفتقر إلى خشخشة الأحبال الصوتية، وإلى الضرورة البيولوجية للشهيق حتى نتمكن من الاستمرار، وإلى الترقب العصبي بشأن المكان الذي سنذهب إليه بعد ذلك، والأهم من ذلك كله، أنَّه يفتقر إلى الزلات والإخفاقات.
الذكاء الاصطناعي يخطئ دون تجربة
الخطأ من طبيعة البشر، وما إلى ذلك. لقد أخطأت تواً وكتبت (أن نُخطئ نحن البشر)، ثم صححت الأمر على أنه (أن نُخطئ كبشر)، قبل أن أصل أخيراً إلى الفعل المقصود. لكن في الطريق إلى هناك، توقفت عند صيغة الجمع بضمير المتكلم، المفعمة بالجماعية، ثم تعثرتُ بظرف مقارن صغير ومرن. الخطأ جوهري ومتأصل في عملية الإبداع، ليس فقط لأنه لا يُمكن تجنّبه، بل بسبب الطرق الالتفافية التي يفرضها.
(ترتكب نساء طائفة الأميش في حياكة اللُحُف خطأً متعمداً في عملهن لتجنب الثقة المفرطة بالنفس ولتجنب الغرور، وحتى لا يطمحن إلى الكمال الإلهي. أنا ملحدة بشكل حازمٍ وثابتٍ (الخطاب للكاتبة)، لكن من الجيد أن أقنع نفسي بأن هذا هو سبب بعض إخفاقاتي). إذا كانت الدقة هي عدو الفن، فربما يكون التجاور (الترادف المكاني) هو عفريته المنزلي الشقي. فبينما تضع الشبكات العصبية شذرات قليلة من المحتوى جنباً إلى جنب كآحاد وأصفار، يميل العقل البشري إلى التشتت، يتخبط يميناً ويساراً في طريقه إلى وجهته، متفحصاً الأشجار على جانبي الدرب ليرى ما قد يظهر فجأة، وأحياناً يسلك المسار الخطأ تماماً. قارن عملية البحث عن كلمة إلكترونياً مقابل البحث عنها في القاموس المطبوع على الإنترنت، على سبيل المثال، أجد كلمة (illuminate) (يضيء)، بمعنى جعل شيئاً مرئياً أو ساطعاً. واضحٌ بما فيه الكفاية، لا تمتلك أسلوباً ذا تعبير شعري مميز على الإطلاق. لكن تصفح تلك الورقة في قاموس أوكسفورد الإنجليزي يمنحني لمحةً بصرية وفكريةً - ليس فقط بمعنى (أضاء)، بل أيضاً بعدة معانٍ منها (توضيح)، (وهمي)، (مشهور)، ويا للعجب! يقودني كذلك إلى كلمة جديدة لم أكن أعرفها.
إذا كنتُ أنا شخصياً مترجماً جيداً، فلن أسمح لهذا التجاور أو التقارب أن يسلب ويختطف مدى الدقة في الترجمة، أما إذا كنتُ مترجماً بشكل أفضل (وبشرياً)، فستتسرب جزيئات ضئيلة من تلك الاحتمالات اللامتناهية إلى عملي، مُحدثة عدة تغيرات عليه، ربما بشكل غير محسوس، لكنها ستُسبب ضغطاً لا مفر منه. على الرغم من أنه في بعض الأحيان (في معظم الأحيان!) قد تكون الكلمة الفعلية التي نختارها كمكافئ لكلمة أخرى هي نفسها التي كان من الممكن أن يقترحها الذكاء الاصطناعي، فإن الارتباطات جميعها في تداعي المعاني (المشتتات والمفاجآت والأخطاء) التي نراكمها في طريقنا إلى تلك الكلمة، إلى تلك الجملة، وذلك النص؛ لا بد أن تُغيرنا، من خلال المعنى الذي نحمله، والمعنى الذي نُبدعه.
الذكاء الاصطناعي يرتّب فراشه
ترتكب الترجمة الآلية أخطاء، وربما يكون أفضل هذه الأخطاء إطلاقاً هي كلمة (لمّع النقانق)، بدل (النقانق البولندية). المثال هنا من الإنجليزية إلى الفرنسية. حيث تشير عبارة (سجق بولندي) إلى نوع من الطعام، ولكن الآلة ربما فسرت كلمة (polish) على أنها تعني تلميع أو يصقل (وليس بولندياً!). وهذا أمر مستهجن!
هذه الأخطاء هي مجرد خطوة أخرى في ازدياد تفاقم القيود التي تقيد الأكثر سوء حظ بيننا في الهرم التكنوقراطي. وإلى جانب التكلفة البيئية الباهظة، بدأ أسيادنا الروبوتيون بالفعل في دفعنا إلى العبودية، مستغلين مدربي النماذج في ورش رقمية أو كمشرفين على المحتوى - أشخاص حقيقين، أغلبهم في بلدان الجنوب العالمي، يتقاضون مبالغ زهيدة مقابل فرز محتوى ممل في أحسن الأحوال ومقيت في أسوأها. بالفعل، فإن الجيل القادم من المترجمين التقنيين محكوم عليه سلفاً بمصير مهني يتمثل في تصحيح أخطاء الآلات باعتبارهم محررين لاحقين يتقاضون أجوراً زهيدة. أمر جيد، أن يوفر ثلاثة رجال أثرياء حد الخيال بضعة دولارات في سبيل ذلك، أليس كذلك؟ إن التحيزات المتجذّرة في الآلة (نظام إدخال/إخراج مفتوح ومجاني، مصمم لبناء أنظمة تحكم إلكترونية مدمجة) - أسوأ ما فينا، على ما يبدو-تضيف طعماً آخر للشر.
حجتي هي أن الذكاء الاصطناعي يرتكب نوعاً من الأخطاء التي تنتج من سوء الفهم وعدم دقة في التقدير. حتى أكثر النماذج اللغوية تقدماً تختلق وتبتكر وتطور نبوءات بشكل اعتباطي، وتتخطى الجمل المعقدة، وتخلط بين الضمائر. يتخبط الذكاء الاصطناعي في السياق اللغوي كذلك: فهو أنكلوساكسوني المركز، عنصري، ومعادٍ للنساء. إنه يلخص أسوأ ما فينا، سواء من حيث القدرات والانحيازات معاً، لكن ما لا يفعله الذكاء الاصطناعي هو العمل داخل إطار المخاطرة وارتكاب الخطأ مثل البشر. الأخطاء جوهرية في عملية التطور والتعلم والتنمية البشرية، كما يقول المثل (السلافي)، (احرق نفسك بالحليب الساخن، وستنفخ في الماء البارد لاحقاً). أما عندما يتعلق الأمر بصنع الفن، فإن الماء لن يحرقك، ولكنك ستتعلم كيفية النفخ، والأفضل من ذلك كله، أن التموجات الصغيرة على سطح الماء قد تكون على شكل شيء يذكرك بشيء آخر يقودك إلى استعارة تحل المشكلة. تؤدي الأخطاء أحياناً إلى نتائج جيدة بشكل غير متوقع.
الأخطاء تولد المرونة، والأهم من ذلك، التواضع. لا أعرف عنك شيئاً، لكنني أكتب بشكل أفضل عندما أشعر أنني نسيت كيفية الكتابة تماماً، عندما لا يكون لدي أي فكرة عما أفعله، عندما أشاهد أفكاري تتشكل على الورق، أو أرى معالجتي الإبداعية للعمل تتكشف على الشاشة، وتعلمني إلى أين أتجه، وما أفكر فيه، وما لدي لأقوله.
الأخطاء هي تذكير بضرورة إيلاء المزيد من الانتباه والاهتمام، والانتباه هو الخميرة والعامل الحي المساعد في الترجمة. إن الانتباه هو الطريقة التي نعتني بها بالنص الأصلي، الاهتمام ومعه التركيز يحرران أيضاً رؤيتنا المحيطية، مما يسمح لها بأن تلتقط، دون وعي، كل الشوائب الجانبية التي تتسلل إلى النص، دون أن نلاحظها مباشرة. وفي هذا الصدد، فإن استخدام الذكاء الاصطناعي إطلاقاً يُضعف ويقلل من الكفاءة الموازية المزعومة لدى البشر، تماماً كما أن اللجوء إلى الذكاء الاصطناعي المولد (التوليدي) لكتابة النصوص نيابةً عنا يجعلنا أكثر غباءً، وأن الرومانسية التي يضيفها الذكاء الاصطناعي التفاعلي على العلاقات الشخصية تجعلنا أشبه بالمختلين عقلياً وأكثر اضطراباً نفسياً، فالترجمة باستخدام الذكاء الاصطناعي تحصر وتضيّق أفقنا متعدد اللغات – ومتعدد الحواس، وكل ما هو متعدد آخر.
الترجمة البشرية تتغذى على التجاور المكاني والكمون الزماني. إن العمل المترجم أدبياً أشبه بنسخة مخطوطة مطموسة متعدد الطبقات من نواحٍ عدة: فهي تحتوي على كل مسودة أعاد المؤلف كتابتها أو شطبها من تلك المخطوطة، أو تخلّى عنها، هذه الطريقة تستحضر الأيام المملة والمزعجة التي قضيناها في الدوران حول كلمة واحدة لساعات عديدة، وبلحظات اندفاعنا في قراءة مقاطع كاملة دفعة واحدة، وفي وقت واحد، وهي تحمل في طياتها الكثير من المخاطر والتحديات، ولكنها تثري العمل الفني النهائي، وفي الأوقات كلها التي انحرفنا فيها عن المسار الصحيح، إما بسبب الحيرة أو الخطأ الفادح، أو بكل النمو المتولد الذي نشأ عن تلك العمليات.