مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

التوجه نحو آسيا.. أوراق سياسية واقتصادية إضافية

من حقائق منطقتنا وعالمنا العربي أن المعسكر الغربي بشكله التقليدي ثم الولايات المتحدة بعد تفكك الاتحاد السوفيتي هو الحليف الأكبر والإستراتيجي لمعظم دول عالمنا وإقليمنا، وهو تحالف أو تعاون إستراتيجي توثق باتفاقات مكتوبة أو محطات علاقات مفصلية ومصالح مشتركة.

وهذه العلاقة الإستراتيجية ليست محل جدل أو تفكير بالاستبدال لكنها علاقة أثبتت التجارب الكبرى أنها تحتاج إلى بناء توازن لها من خلال علاقات قوية مع دول كبرى اقتصادياً وسياسياً وبخاصة بعد زوال الجدار الأيديولوجي الذي كان يفصل بين دول مهمة عربية والصين والاتحاد السوفيتي والتي كانت تمثل حالة شيوعية متمددة تناقض هوية عالمنا العربي أو معظمه.
وخلال العقود الأخيرة نجحت دول آسيوية مثل الصين واليابان وغيرهما في احتلال مساحات مهمة في الاقتصاد العالمي، وهذه الدول تحول بعضها إلى قطب اقتصادي دولي مثل الصين التي تشكل منافساً اقتصادياً وسياسياً لأمريكا، بل ربما تكون الأولى على أولويات الإدارة الأمريكية.
توسيع مساحات دول آسيا في خارطة العلاقات السعودية مثلاً كان منذ فترات طويلة لكنه اليوم يذهب إلى التجذير ووضع الأبعاد الإستراتيجية له وبخاصة في ظل أولويات غير مريحة لبعض الإدارات الأمريكية الديمقراطية التي تمارس التحريض السياسي على السعودية تحت عناوين الديمقراطية وأمثالها.
عام 2022 كان مهماً سياسياً واقتصادياً للسعودية والخليج ودول عربية عديدة عبر تحرك ذكي قادته القيادة السعودية التي كانت تتعرض للاستهداف السياسي والإعلامي من إدارة بايدن، وكانت الحرب الروسية الأوكرانية منعطفاً مهماً في ظل أزمة الطاقة التي تعاني منها أوروبا نتيجة الحرب، واضطر الرئيس الأمريكي للقدوم إلى السعودية ومعه مطالب لم تتحقق كما أراد، لكن السعودية حققت مكاسب سياسية مهمة وأغلقت ملفات كانت تستعملها الإدارة الأمريكية للتحريض على الرياض.
زيارة بايدن احتاجت إلى مرحلة أخرى كانت في زيارة الرئيس الصيني في شهر كانون أول، زيارة لقي فيها الضيف حفاوة سياسية وشارك في ثلاث قمم مثلما شارك بايدن، وكانت الاتفاقات الاقتصادية مهمة بين السعودية والصين، فضلاً عن أبعاد الزيارة خليجياً وعربياً.
كل آسيا تحتاج إلى علاقة قوية مع السعودية، لكن السعودية تتحرك بشكل منظم ووفق قواعد كبرى نحو آسيا وبخاصة القوى الكبرى فيها، تحرك له أبعاد سياسية أهمها كسر احتكار أمريكا للخليج وفتح الأبواب لمنافسي واشنطن وبخاصة الصين، واستثمار الاتفاقات الاقتصادية تجاه زيادة القوة السياسية للسعودية والخليج.
السعودية لا تدير ظهرها لعلاقة إستراتيجية مع أمريكا، لكنها تتحرك بمعادلات القوى الكبرى في الإقليم والعالم، هذه المعادلات التي تعطي مساحات في العلاقة مع الجميع وبخاصة قوى اقتصادية وسياسية كبرى في آسيا وغيرها.
سياسياً لا تبدو واشنطن مرتاحة للتحرك السعودي القوي تجاه الصين وغيرها، ومؤكد أنها ستعمل على عرقلة ما تستطيع من اتفاقات بين الصين والعرب والخليج والسعودية، لكن التعددية في التحالفات مهمة للقوى الفاعلة مثل السعودية وبخاصة بعد تجربة مع إدارة بايدن والديمقراطيين صنعت قناعات مهمة حول أسس العلاقة مع أمريكا أو بعض إدارتها.
الذهاب نحو آسيا ليس جديداً، وأمريكا ستبقى حليفاً مهماً، لكن تعميق العلاقات مع قوى آسيوية مهمة مثل الصين قادر على إعطاء السعودية أوراقاً سياسية واقتصادية إضافية.
وبشكل متداخل مع الذهاب إلى آسيا وقواها السياسية والاجتماعية الكبرى فإن العلاقات مع روسيا تبدو استحقاقاً وهذا ليس مرتبطاً بالحرب الروسية الأوكرانية بل قبل ذلك، فروسيا ليست قوة عالمية كبرى فحسب بل هي قطب اقتصادي في مجال الطاقة حيث أثبتت الحرب الأخيرة أن روسيا مركز ثقل في مجال الطاقة بالنسبة لأوروبا، وأن المعسكر الغربي يعتمد على روسيا بشكل كبير جداً في هذا المجال المهم لاستمرار الحياة الطبيعية في أوروبا، وبهذا فإن روسيا التي تمتلك حلفاء مهمين من بقايا الاتحاد السوفيتي في قارة آسيا جزء من القرار الدولي سياسياً واقتصادياً، ودولة بثقل السعودية ومعها دول خليجية أخرى شريك لروسيا في بناء معادلات سوق النفط العالمي كما رأينا في قرارات أوبك + الأخيرة.
وروسيا اليوم جزء من منطقتنا بوجودها في سوريا حيث قواعدها العسكرية البرية والبحرية على أرض سوريا وهي شريك لا غنى عنه في تفكيك هذه الأزمة وغيرها.
ولا يمكن الذهاب إلى آسيا دون أن نقترب من حلفاء الصين وأولوياتها، وهذا يفتح أبواباً مهمة لآفاق علاقات مختلفة ومهمة وبعيدة المدى مع الصين وشبكة علاقاتها وتحالفاتها.
وإستراتيجية الذهاب لآسيا تفتح الباب للاستفادة من مسارات تفوق آسيوية في مجالات مهمة قادرة على جعل منطقتنا مركز ثقل في مجالات مستقبل العالم، وأيضاً نموذج الصين في التمدد في العالم بنعومة ودون الدخول -ما أمكنها- في صراعات مع المنافسين، حيث نجحت الصين في أن تكون في كل الأسواق وأن توسع استثماراتها في كثير من الدول والقطاعات مع تجنب الصدام إلا في الحدود الدنيا مع الخصوم، ولعل الدول العربية القوية وذات الرؤية اقتصادياً مثل السعودية قادرة على بناء مسارها الاقتصادي في مجالات عديدة مع الاستفادة من تجارب آسيا.
نحن جزء من آسيا، والذهاب نحو آسيا بشكل منهجي ووفق رؤية واضحة، تطوير من العيار الثقيل لعلاقات قديمة مع آسيا، لكنه تطوير يخدم مشروعاً كبيراً ورؤية متقدمة.

ذو صلة