مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

بيت العود العربي في السعودية.. نحو فسحة جمالية وتربوية خلاقة

ما كان النغم عند المؤلف الموسيقي المقتدر والعازف البارع نصير شمّة تركيباً صوتياً وحسب، بل أحد أهم أشكال الوعي، وأخطر تجلياته وبالذات ما خصّ الموقف من قضايا وأزمات تحيق بالإنسان المعاصر.
ولم يجعل شمّة من كل النجاح الذي حصده، امتيازاً فردياً، كان كافياً ليجعله أسير (نجومية) وإن كان يستحقها، فهو ظل يعرض أفكاراً على مؤسسات ثقافية وفكرية عربية من شأنها تحقيق حلمه في تأسيس معهد لتعليم العزف على العود، وصقل مواهب ومدارك أجيال تقرأ الموسيقى العربية والشرقية باحترام تستحقه. وفي الوقت الذي كان شمّة على وشك الاتفاق مع جامعة لندن، التي قررت تنفيذ المشروع قبل نحو ربع قرن، كان يأمل في أن تأتي المبادرة ولو بربع الإمكانيات من جهة عربية، وهو ما تحقق حين وافقت مستشارة دار الأوبرا المصرية والباحثة ومديرة مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية الراحلة د. رتيبة الحفني على أن تستضيف (بيت العود العربي) الذي وزّع شمّة في العام 1998 شموعاً كثيرة، صبر عليها كثيراً كي تضيء المكان، وكي تتمكن من جذب محبي معرفة وفن راقيين.

وهكذا بدأ الموسيقار العراقي مشواره مع (بيت العود) بجدية ليست غريبة على من راهن على تحييد موقعه الفردي لصالح تجارب موسيقية (جماعية)، تؤكد الرفعة الفنية في ما تظهره، عنصراً من عناصر النجاح.
بيت فسيح للنغم الجميل
اليوم يبدو نصير مطمئناً على نهجه، فمريدوه في العزف على العود صاروا كثراً، أي أن فكرته أضاءت وأوصلت قبسها، ورسل الموسيقى العربية الأصيلة يعبرون الحدود كي يصلوا إلى (بيت العود العربي) الذي صار بيوتاً في غير عاصمة عربية، وليكتشفوا كم هي صغيرة بل وضيقة في مساحتها تلك البيوت، ولكن حوّلتها المعرفة والمحبة والصفاء مع النفس والفكرة إلى بيوت فسيحة للنغم الجميل.
وفي حوار مع كاتب السطور يقول شمّة عن فكرة (بيت العود العربي) ومغزاه: (عندما افتتحت بيت العود العربي في مصر بدأ طلاب من جنسيات متعددة غربية وعربية في التوافد لدراسة آلة العود، وكنت أعلم تماماً منذ أن وضعت قدمي على أول الطريق أن هدفاً ينتظرني هو عولمة العود وبالتالي عولمة ركيزة أساسية من ركائز ثقافاتنا العربية، وبالفعل جاءتني الفكرة دعوة من إسبانيا لافتتاح فرع لبيت العود العربي بها، ومن ثم من ألمانيا، وبدأت أحفر ربما في الصخر من أجل فكرة عولمة موسيقانا لا الوقوف عند الموسيقى الوافدة والاستفادة منها فقط، لكن في حقيقة الأمر أن فكرة العولمة نفسها لن تستطيع أن ترتبط بالمبادرات الفردية لأنها مبادرات مكلفة جداً لا يستطيع الأفراد تحمّلها. ربما هي دعوة هنا لعولمة ثقافاتنا بشكل مدروس، عولمة ذاتنا التي تنبع من جذورنا، وهي دعوة للمشاركة في تعميم ثقافاتنا والاهتمام بهذه الناحية بشكل كبير فلدى دولنا العربية مجتمعة أكبر مخزون ثقافي تراثي في العالم).
ومع بث معرفته وملامح أسلوبه إلى مئات العازفين الذين تخرجوا من سلسلة فروع لـ(بيت العود العربي) التي انطلقت من القاهرة لتمتد إلى أقصى الوطن العربي من الشرق إلى الغرب، كانت فكرة شمّة قد مضت بقوة نحو التحقق كواقع مؤثر، فهو وعى أهمية أن يكون النشء الجديد ضمن سياق تربوي سليم، من أجل أن تظل الموسيقى حاضرة في تأثيرها التربوي والمشيع لقيم الجمال والتهذيب الروحي. ليس هذا فحسب، بل إن عدداً من الفرق الموسيقية أسسها نصير شمّة، صارت مراكز ترويج للمعرفة النغمية التي لا تتوقف عند حدود الشرق، بل تتصل بحرية وثقة مع أنغام العالم الأخرى، وكانت عبر تلك الملامح علامات رقي فني متجدد.
هيئة الموسيقى السعودية والطريق إلى (بيت العود العربي)
بعد تراكم نوعي لتجربة (بيت العود العربي) والحضور الفاعل للموسيقار شمّة في المهرجانات الثقافية السعودية التي تشهد تنوعاً مدهشاً في الآونة الأخيرة نابعاً من روح الانفتاح الفكري والفني، وقّعت (هيئة الموسيقى) السعودية مؤخراً اتفاقية شراكة مع (البيت) ومؤسسه، للتعاون المشترك في مجالات التعليم والتدريب الموسيقيين.
الاتفاقية- الشراكة لإقامة بيت العود العربي في حي (جاكس) بمحافظة الدرعية تفتح طريقاً نحو ورشة عمل منتجة في أكثر من مجال موسيقي، فثمة نواح تربوية وصولاً إلى تحصيل بمعرفة الموسيقى العربية والشرقية وإتقانها عزفاً على الآلة الأم لنغمنا الأصيل: آلة العود، وثمة نواح ثقافية قائمة على إنتاج موسيقي يغني التواصل الروحي داخل السعودية وخارجها، فضلاً عن تحصيل الخبرات المهنية عبر عمليات (الإشراف على أعمال التأسيس والتشغيل واستقطاب أفضل الكوادر الأكاديمية والمهنية، وإعداد المناهج والدروس اللازمة لتعليم الآلات الموسيقية، وتأسيس ورشة لتصميم وتصنيع الآلات الموسيقية، إلى جانب تأهيل المتدربين وصقل مواهبهم).
عن هذه الشراكة التربوية-الموسيقية يقول شمّة: (مع مطلع العام القادم في السعودية، وبتوقيع الاتفاق على فتح بيت العود، سيكون دوره مهماً في النهضة الموسيقية والفنية والبحثية التي تخطط وتعمل عليها وزارة الثقافة في المملكة العربية السعودية وهيئة الموسيقى. أبارك وسنعمل معاً على أن يكون هناك موسيقي في كل بيت).
وفي حين تؤكد هيئة الموسيقى، في بيانها عن الشراكة مع (بيت العود العربي) على كون خطوتها جاءت (لاستقطاب الكوادر الموسيقية الإقليمية والعالمية، وتأسيس مناهج تعليمية أكاديمية بمعايير عالمية، لتعزيز الصناعة الموسيقية في المملكة، وتطوير قطاع الموسيقى، وتأهيل وتمكين المواهب المحلية بمختلف اتجاهاتها وتخصصاتها الموسيقية)، فهي تتصل جوهرياً بسعي الموسيقار شمّة نحو بث معرفته المعاصرة للنغم العربي والشرقي وبالتالي تقديم ذلك النغم إلى العالم بطريقة رفيعة، فعدد من الفرق الموسيقية التي أسسها انطلاقاً من فروع (بيت العود)، صارت مراكز ترويج للمعرفة النغمية التي لا تتوقف عند حدود الشرق، بل تتصل بحرية وثقة مع أنغام العالم الأخرى، وكانت عبر تلك الملامح علامات رقي فني متجدد، وهو ما يعني رسم ملامح جدية لفرقة موسيقية سعودية تطل على بلادها والمنطقة بل العالم من شرفة (بيت العود) وهي بذخيرة روحية عمادها العزف الجميل المتقن والنغم المبتكر الذي لا يتنكّر لجذوره الحضارية وهويته.
لحظات العلا
وإذا كانت شواهد الحجر الأثرية، خلفيّة ساحرةً لحفل (الموسيقى في الحضارات القديمة) في العلا والذي أحياه شمّة مؤخراً، فهي على موعد ليس بالبعيد مع شبان وشابات من السعودية سيرتقون معاً إلى علياء النغم الأصيل في فصول أخرى من فصول الرفعة الروحية الموسيقية التي صاغ سطورها عازفون عرب سبقوهم إلى ورشة الإبداع التي يمثلها (بيت العود)، وسط شعور تام بالثقة من ميلاد موجة سعودية تحقق لمسة خاصة ببلادهم في النغم المعاصر الرصين، تشبه تلك الأمواج الساحرة التي شهدتها مدن عربية مختلفة وسافرت عبرها أجيال من العازفين والدارسين نحو آفاق الموسيقى وتجلياتها الروحية الخلّاقة.
هي مسؤولية مشتركة بين (هيئة الموسيقى) و(بيت العود)، حيال من يمتلكون الموهبة وقد يصبحون في المستقبل مبدعين حقيقيين، وقد يتحولون من مجرد راغبين بمعرفة الموسيقى إلى عازفين مهرة وحتى إلى مدرّسين ومؤدين ممتازين، مثلما هي نتيجة تسعد الموسيقار شمّة في تجربته الرائدة: (أقول في نفسي لقد كان مشواري وتعبي وقراري صائباً، صحيح أنني أضعت الكثير من الوقت على بيوت العود هنا وهناك ولكن عندما أرى العشرات من الشباب الموهوبين الذين يستطيعون أن يكملوا طريق هذه الآلة ومستقبلها، وعندما أشعر في نفس الوقت أننا استطعنا أن نزرع موسيقيين في الكثير من البيوت المختلفة، فهو إسهام في رفع مستوى الذوق العام، وتوسيع مجال الذائقة الرفيعة وتأثيرها التربوي والفكري).

ذو صلة