مجلة شهرية - العدد (570)  | مارس 2024 م- شعبان 1445 هـ

تحت الشجرة.. يوم في حقول التين

ترمز ثمرة التين عند الرومان باعتبارها فاكهة أنثوية، وعند ديفيد هيربرت لورانس فهي تبدو للوهلة الأولى ذكوريةً، وما إن نقترب لنمعن النظر فيها حتى تكشف تفاصيلها السرية عن أنثويتها الخالصة. أما عن التكوين العضوي لهذه الثمرة (المقدسة في جميع الأديان السماوية)؛ فلأشجارها جذور شديدة البأس إزاء الظروف المناخية القاسية، بينما لفروعها ممسك رفيع، وملمس لين، وسهل الكسر. أما عن عمقها الداخلي فهي تزهر ثمرة هشة وحساسة، ولذلك يمكن تشبيه شجرة التين بالمرأة الفلاحة التي لم تمنعها طبيعتها الأنثوية عن العمل بين أشواك البساتين في أعلى التلال الوعرة، ورغم صلابتها فإنها كجل البشر والتين وأغصانها، يكسرها الألم، ويسمرها الغناء، ويرهفها الحب.

(تحت الشجرة) هو الفيلم الطويل الثاني، والروائي الأول للمخرجة التونسية أريج السحيري، والذي عُرض خلال فعاليات الدورة الثانية من مهرجان البحر الأحمر السينمائي (1 - 10 ديسمبر 2022). فبعد عملها الوثائقي (عالسكة) والذي تناولت من خلاله واقع العاملين في السكك الحديدية المهترئة والمتهالكة، وللواقع المهمش الذي يعيشه هؤلاء الأفراد عبر يوميات حياتهم العادية؛ فإن تجربة أريج الروائية الأولى (تحت الشجرة) لا تخلو من بعض الخصال الوثائقية التي ظهرت في عملها السابق، بل من خلال أعين العاملين -أيضاً- في الفلاحة بولاية سليانة شمال غرب تونس، تُلعب جل الأدوار عبر ممثلين غير محترفين، عمل جميعهم في قطف الثمار في يوم من الأيام بنفس المنطقة.
تستفتح السحيري رحلتها التي تستغرق نهاراً من حياة قاطفي التين بمشهد لمجموعة متزاحمة داخل الحوض الخلفي لمركبة تسير بين التلال الخطرة نحو أحد حقول التين في المنطقة، كما تتكون هذه المجموعة من جيلين: الأول من الفتية والفتيات، والثاني من كبار السن من الرجال والنساء. وقد تمهد الافتتاحية بأننا على وشك أن نشهد اضطهاداً محتملاً من قبل أرباب العمل أو صراعاً محتدماً بين الجيلين، لكن ما أن تضع المجموعة أقدامها على أرض التين، إلا ويصبح الحقل مساحة للمرح والغزل، وأشجاره مخبأً يتبادل العشاق الحديث فيه.
ولا يقصي ذلك جدية التناول لسياق الحالة، إذ إنه ليس فيلماً عن ملذات الحياة، ولا عن إيجاد الحب في تلك المساحات. فعلى الرغم من الرومانتيكية المفرطة للقطات المقربة، وصور الانبساط الجمالي لضوء الشمس المتداخل بظل أوراق الشجر على أوجه شخصياته؛ إلا أن السحيري تعمل على تكريس الحقل ليكون أرضاً تنتزع منها العناصر الدرامية في السرد الروائي، واستبدالها بواقعية أسلوبية تحركها النزعة الطبيعية في الشخصيات، والعفوية العذبة في الحوارات، والتي تقربنا شيئاً فشيئاً إلى معالم أكثر دقة عن أبطالها، وإلى حالة هي أكثر اتساعاً من صورة العمال في حقول التين، حيث المجتمع التونسي في نقطة التقاء بين حاضر الأمس ومستقبل الغد.
وتسبر السحيري مجال شخصياتها في عدد لا متناهيَ من التقاطعات الثنائية، لكن ما يضفي التركيز الأكبر على الشخصيات النسائية هو إدارة السياق ليكون في موضع الأنثى بما يحيطها، حتى في الحب، حين فُحص هنا من خلال علاقة المرأة بالرجل، لا الرجل بالمرأة، حاسمةً المخرجة ذلك بمشهدٍ معبر لشخصية ليلى المسنة عندما سُئلت عن الحب، فأجابت فيه عن مقدار ما عاشته منه، وكيف كان صعباً بالنسبة إليها، إلى أن تغني أغنية حزينة، وتنهمر بالبكاء عند نهايتها، مستغفرةً بكدر، كما لو قد شعرت بنوع من الخزي أثناء هذا الاستذكار.
أما عن الفتيات الشابات، وهن المحور الرئيس في الفيلم، فابتداءً من شخصية فداء، الفتاة الظاهرة على ملصق الفيلم، أكثرهن مرحاً، وأقلهن قلقاً بدهاليز المستقبل المبهم، والتي قد تمثل روحها الحرة وقدرتها بالتعبير عن نفسها ثورةً على النموذج التقليدي للمرأة التونسية، مما يثير احتناقاً يخفيه الكبار بنضجٍ محكم، والعكس يأتي في حياء مريم، الشخصية الخجولة، والنموذج الأكثر محافظةً بينهن، والأقل طيشاً، والتي تعمل بشكل مستمر على وضع ضمانات لمستقبلها وتحييد عشيقها عن التقاطع مع الفتيات الأخريات، أما عن ملاك، فهي التعبير المعقد للحرية الوجلة والنضال الصامت.
كما نشهد في (تحت الشجرة) حركة سردية لا تبنى لكنها تتمدد بالمعنى الطبيعي للكلمة، دون تدرجات حدثية، أو تسلسلات بنائية يمكن التنبؤ من خلالها بالمنطقة التي سيذهب الفيلم إليها، فبقدر ما تشغر (الطبيعة) المكونة من ضوء النهار واللون الأخضر للأشجار إطارات الصورة؛ فإنه فيلمٌ يتحرك بما هو متحركٌ فيها؛ (الزمن المتألف بالشمس شروقاً ثم غروباً) أو لحركة الشخصيات داخلها، وهنا حيث نأتي للإيماء الأذكى، وذلك عبر إضفاء قيمة حسية للوجود الجسدي للشخصيات، وحركتها بين أشجارها، والتي لم توضع لأغراض جمالية فحسب، لكن لتخلق التكوين، وتمرر الفكرة، وتجسد الجوانب النفسية، وترسم درجات الاندفاع، ومقدار التراجعات، متجلياً ذلك بصورة أدق عند اقتراب الشخصية من الأخرى، أو للمساحات المتروكة بينهما، لابتعاد مريم من فراس بالرغم مما تحمله من حب جم له، أو لاقتراب فداء (دون قصدٍ) نحوه، أو بمدى تردد ملاك على الإقدام إلى صابر، بل حتى بالطرق المتبعة لقطف ثمار التين، أو في تحريك الأغصان، لتقوم مهمة السحيري على إدارة هذه المساحة الحرة للممثلين في فيلم يفرط بواقعية حواراته العفوية والذي تتجسد فيه مجموعة الأحاسيس على أن تصبح جسدية حركية بدلاً من مفهومة منطوقة.
ينتهي الفيلم حيثما ابتدأ، عند الحوض الخلفي للشاحنة والمزدحم بالفلاحين. هذه الصورة، وباعتبارها خاتمة على وجه الخصوص؛ تحيلنا إلى مجموعة من الفجائع التي حلت على المجتمع الريفي في تونس، إذ تشير مجموعة من المواد الصحفية التونسية بين عامي 2017 - 2019 إلى عدد من حوادث انقلاب الشاحنات الذي أودى بحياة أكثر من 30 فلاحاً وفلاحة. يبدو لنا عبر هذه اللفتة بأن السحيري -التي كانت صحفية في السابق- مدركة لهذه الوقائع، وبشكل متعمد، تستبدل التراجيديا المتوقعة لتكون غناءً وفرحة، باعتبار أن الابتسامة هي البورتريه المناسب لذكرى تلك الأرواح، ولنساء الحقول اللاتي ولدن بين الأشواك والتراب.

ذو صلة