مجلة شهرية - العدد (591)  | ديسمبر 2025 م- جمادى الثانية 1447 هـ

بين الترجمة وإنصاف المترجمين

ليس بالإمكان تحديد العلاقة بين الترجمة والمترجمين دون الرجوع إلى تاريخ الترجمة، وتاريخ الإنسانية ولغات البشر. منذ أن خلق الله الدنيا، إذ قال في سورة الأعراف: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ). (الحجرات - 13)

فالمقصود بتعارف البشر هو الاتصال فيما بينهم عن طريق التفاهم، وتعلم لغات الآخرين، والتفاهم فيما بينهم. ومنذ أقدم العصور كانت هناك حركات للترجمة بين لغات الشرق القديمة كالبابلية والآشورية والكلدانية، وفيما بعد بين الفارسية والعربية، وبين اليونانية والرومانية.
وقبل الحديث عن المترجمين لا بد من بيان أن قضية الترجمة برمتها تتعلق بمفهوم الترجمة أساساً قبل أن تتفرع إلى تلك التيارات التي تتجاذب أقطاب من يتعاطون هذا العمل. بالنسبة لي فإن مهمة المترجم تنحصر في المقام الأول في نقل المعاني والأحاسيس كما وردت في النص الأصلي، وكما أحس بها من ألف هذا النص. إن الموضوع يمكن أن ينظر إليه بصورة مختلفة، وهي إلى أي مدى استطاع (المترجم) أن يتناول النص المنقول إلى لغته ليس بأمانة فقط، لأن الأمانة واجب مقدس من واجبات المترجم الذي يجب أن يحترم العمل الذي يقوم بنقله إلى لغته، أما ما يطلق عليه ترجمة بتصرف وترجمة المعنى أو(الترجمة الحسناء)؛ فلا علاقة له بالترجمة. كذلك فإن ما يطلق عليه الترجمة الحرفية ما هو في الواقع إلا نموذج لنوع رديء من الترجمة، ناتج عن سوء فهم للمعنى المراد نقله. مع ذلك تقتضي الأمانة توضيح مسألة في غاية الأهمية، وهي أنه مهما أوتي المترجم من قدرة وموهبة وامتلاك ناصية اللغة الأصلية واللغة المنقول إليها؛ فإنه قد يسيء فهم بعض المعاني والمفردات التي قصدها المؤلف الأصلي. من هنا وردت تلك المقولة الشهيرة المتعلقة (بالمترجم الخائن)، وهذا الخائن ربما يكون خائناً عن غير قصد، أو أن يكون خائناً مع سبق الترصد والإصرار، لأنه أراد أن يتصرف بالنص حسبما يراه، وتكون النتيجة هنا تلك الترجمات التي لا تمس العمل الأصلي. كيف تكون هناك ترجمة بتصرف، لنأخذ مثلاً لتبسيط الموضوع إلى درجة التسطيح: لو قام مترجم ما وأخذ عملاً أدبياً مشهوداً وقام بنقله إلى لغة أخرى بادئاً بتغيير الأسماء والأماكن وأجواء العمل وإضفاء عبارات وأفكار لم ترد على بال مؤلف النص الأصلي، وقام بعد ذلك وأطلق على عمله هذا (ترجمها بتصرف فلان)، لا أرغب في الاسترسال أكثر من هذا، فالعملية هنا لا تتعلق بالحرفية بقدر ما تتعلق بجودة الترجمة.
بعد هذه المقدمة تلح على المرء صلة الشبه بين الشاعر والمترجم، فكلاهما يستخدم اللغة للتعبير عن العمل الذي يقوم به، فالشاعر يقرض الشعر بأنواعه لا ينتظر جزاء ولا شكوراً من أحد، وإن كان في بعض بلاطات الملوك وظيفة يطلق عليها شاعر القصر مهمته تدبيج القصائد في مدح أولياء نعمته والاحتفال بالأعياد القومية وتدبيج القصائد لهجاء أعداء البلاد أو القبيلة، بمقابل ذلك يتطلع إلى ما سيجود عليه ولي النعمة أو رئيس وشيخ القبيلة من كرم يزيد وينقص حسبما تقع جودة القصيدة في نفسه، حسب قبول القصيدة.
وثمة شبه كبير بين عمل الشاعر والمترجم في كونه عملاً فردياً، إلا أنه مع تقدم العصور قد يصبح جماعياً عندما يعكف المترجمون على إتمام عمل ما، كفريق للترجمة. وهنا لا بد لنا من التطرق إلى أنواع الترجمة والمترجمين، فهناك الترجمة التحريرية بمختلف أنواعها الأدبية والعلمية، والترجمة التتابعية والفورية، والترجمة المستخدمة في الندوات والمؤتمرات، وهناك أنواع من الترجمات العلمية الصناعية المتخصصة. غير أن ما يعنينا في هذا المجال هو ذلك المترجم الفرد غير المحترف كمترجمي العصور الأولى الإسلامية كابن المقفع مترجم كتاب كليلة ودمنة عن أصل فارسي أو هندي، إلى أن اهتدى خلفاء بني العباس فأنشؤوا في بلاطاتهم دواوين تعنى بترجمة أعمال الحضارات الأخرى العلمية والفلسفة بشكل خاص من الحضارة اليونانية، ويقال إن الخليقة المأمون ابن الرشيد كان يغدق على المترجمين الذين وظفهم في دار الحكمة. وفي العصر الحديث ما قام به والي مصر في القرن التاسع عشر من تشجيع واهتمام بالترجمة.
في الزمن الراهن هناك شكوى مريرة من قبل بعض المترجمين من عدم إنصافهم وتقديرهم، باستثناء المترجمين الفوريين الذين يتقاضون أجوراً عالية، ولكن للإنصاف تبقى المسألة نسبية وتختلف من دولة إلى أخرى. ففي بعض البلاد تقام مناقصات تحدد على ضوئها تكلفة الترجمة كأنما هي عملية تجارية. وعلى هذا الأساس فإن المترجمين المحترفين يفرضون تسعيرتهم لتقديم خدمات الترجمة من خلال مكاتبهم بحسب القطعة والصفحة وحتى الكلمة.
وطبيعة النفس البشرية لا ترضى بالقليل وتطمع دائماً بالكثير. ومتى ما آمنا أن الترجمة عمل خلاق فإن الترجمات المتميزة يستحق مترجموها كل تكريم وسخاء من قبل من يقوم بتكليفهم ترجمة أعمال معينة. فعملية الإنصاف تقتضي تحسين الأجور والتكريم في المناسبات الوطنية اعترافاً بأهمية الترجمة والمترجمين.

ذو صلة