مجلة شهرية - العدد (592)  | يناير 2026 م- رجب 1447 هـ

المسرح من الخشبة إلى الفضاء الرقمي

المسرح الرقمي: هذا الجنس المسرحي يعبر عن حالة مغايرة لما هو مألوف ومتعارف عليه من فن المسرح في صورته التقليدية، انطلاقاً وتماشياً مع التطورات التي يشهدها العصر الرقمي التفاعلي، الذي ألزم فن المسرح بالدخول إليه والتفاعل معه، أسوةً بفنون أدبية وإبداعية أخرى وجدت في هذا الفضاء الرقمي متنفساً لها، من خلال إنتاج مسرحيات رقمية تفاعلية تستفيد من التكنولوجيا الحديثة وما يرافقها من عتاد وبرمجيات وإمكانات متنوعة، تسمح بالتفاعل مع الجمهور ونقله من طبيعته التقليدية المتسمة بالجمود والسكون إلى طبيعة جديدة تتسم بالتفاعلية والدينامية.
فما هو المسرح الرقمي؟ وما أبرز سماته وأسسه؟ وهل يعتبر امتداداً للمسرح بمفهومه التقليدي، أم هو نوع جديد فرضته التقنية الحديثة؟ هذا ما سنلقي عليه الضوء عبر هذه السطور.
المسرح الرقمي
نظراً لوجود مسميات عديدة للمسرح الرقمي، مثل المسرح التفاعلي والمسرح الافتراضي، فقد تعددت تعريفاته.
فهناك تعريف يجعله «نمطاً جديداً للكتابة المسرحية يتجاوز الفهم التقليدي لفعل الإبداع الأدبي، الذي يتمحور حول المبدع الواحد، إذ يشترك في تقديمه عدة كتاب، كما يُدعى القارئ (المتلقي) أيضاً للمشاركة فيه، وهو مثال للعمل الجماعي المنتج الذي يتخطى حدود الفردية وينفتح على آفاق الجماعية الرحبة». (فاطمة البريكي، مدخل إلى الأدب التفاعلي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2006، ص 99.)
وهناك تعريف آخر يرى أن المسرح الرقمي هو «المسرح الذي يوظف معطيات التقنية العصرية الجديدة، المتمثلة في استخدام الوسائط الرقمية المتعددة في إنتاج وتشكيل خطابه المسرحي المقدم على خشبة المسرح، والذي يشاهده الجمهور (هنا والآن)، وهو يستثمر التقنيات الرقمية التي من شأنها التحليق جمالياً وفكرياً في فضاءاته وعوالمه، ليتجلى فيها انفعال التلقي وانعكاسه على الذائقة بمختلف مستوياتها». (محمد حسن حبيب، المسرح التفاعلي، مجلة الفن المعاصر، العددان 14–15، أكتوبر 2015).
كما يرد في دليل اليونسكو أن «المسرح التفاعلي مسرح للنشاط الاجتماعي بفعل ما يتيح للجمهور من إمكانات التواصل والتفاعل والتفكير والتعبير والمناقشة». (د.زغدودة ذياب/ مرش، «المسرح التفاعلي والرقمنة»، مجلة العلوم الاجتماعية والإنسانية، العدد 35، ديسمبر 2016)
ونخلص من هذه التعريفات، التي تحاول تحديد مفهوم المسرح الرقمي أو التفاعلي، إلى أن المسرح قد دخل مرحلة جديدة تخطت عالم الفردية إلى عالم الجماعية والتفاعلية، باعتماد تقنيات الحاسوب وشبكة الاتصالات ولاسيما تقنية النص المتفرع تحقيقاً لنمط اللاخطية في الكتابة، فضلاً عن إشراك المتلقي في مشاهد يكون بعضها ارتجالياً بعد الاتفاق على ثيمة درامية ينطلق منها النص. ويبقى العمل الإبداعي على هذه الشاكلة محلقاً في الفضاء الافتراضي لشبكة الإنترنت، أو يكون على قرص مدمج أو كتاب إلكتروني، دون أن يلامس فضاء الورق.
بدايات ظهور المسرح الرقمي
ترجع الإرهاصات الأولى لظهور المسرح الرقمي إلى التجربة الرائدة التي قام بها (تشارلز ديمير)، الذي يعد الرائد الأول لهذا المسرح التفاعلي؛ إذ ألّف أول مسرحية رقمية تفاعلية سنة 1985م، مما يفيد أنه أول من ساهم في إنتاج هذا الجنس الأدبي الإلكتروني، وذلك بالتزامن مع ظهور أول رواية تفاعلية رقمية بعنوان (الظهيرة) لمايكل جويس سنة 1986م.
ثم توالت أعمال ديمير في مجال المسرح التفاعلي، عبر تقديم العديد من العروض المسرحية التفاعلية التي تفاعل معها كثير من المتلقين من القراء والمبدعين المهتمين بالكتابة الدرامية من مختلف أنحاء العالم.
ومن أعماله: (الأغنية الأخيرة لفيوليتا بارا)، (بات يود يمورت)، (تيوركيز ورانشوكوكتيل سوت)، (جاتوا تيمورت)، علاوة على تأسيسه أول مدرسة تُعنى بتعليم فن كتابة سيناريو المسرح الرقمي. كما ظهرت مواقع أخرى لتنظيم دورات تدريبية من أجل تأهيل كتاب مسرحيين جدد للكتابة المسرحية الرقمية الجماعية.
واللافت أن المسرحية التفاعلية لم تعتمد في نشأتها الأولى على تقنيات متوفرة سلفاً، كما هو الحال مع الرواية التفاعلية الأولى التي اعتمد مؤلفها على برنامج السرد.
المسرح الرقمي عربياً
عرف المسرح الرقمي في الثقافة العربية تأخراً مقارنة بنظيره الغربي، حيث كانت البداية عام 2005م بتقديم عرض مسرحي بعنوان (مسرح عبر الإنترنت)، بتضافر جهود العديد من المسرحيين العرب أبرزهم آنذاك المخرج والممثل العراقي حازم كمال الدين.
ثم جاءت التجربة المسرحية الثانية عام 2006م على يد الكاتب المسرحي العراقي محمد حسين حبيب بتقديم عرضه المسرحي الرقمي (مقهى بغداد)، الذي اعتمد في إبداعه على تقنية النص المترابط.
بعد ذلك توالت الأعمال في مجال العرض الرقمي من خلال العديد من التجارب المسرحية الرقمية في العالم العربي (في لبنان ومصر والمغرب ومسرح المهجر) من خلال أعمال العديد من المسرحيين العرب الذين نذكر منهم: ربيع مروة، حازم كمال الدين، يوسف الريحاني، داليا بسيوني وغيرهم ممن أبدعوا في هذا الشكل المسرحي الجديد.
بين المسرح الرقمي والتقليدي
يحمل المسرح الرقمي عدداً من الخصائص والسمات التي جعلته مختلفاً عن فن المسرح بالصورة المتعارف عليها، ويمكننا عقد مقارنة بسيطة بينه وبين المسرح التقليدي انطلاقاً من هذه الخصائص:
- العروض الرقمية الخالصة: تتحطم فيه قواعد الوحدات الثلاث والبناء الدرامي، وتختفي فيه الأزمنة والأمكنة الواقعية، ويظهر (الممثل الرقمي) بدلاً عن الممثل الحي، فتظهر كائنات افتراضية رقمية ذات ذاكرة محوسبة وسط عوالم افتراضية.
- تغيير دور الجمهور: يكسر الطابع التقليدي السكوني للمتلقي (الجمهور) ويمنحه مساحة للمشاركة والتفاعل والنقاش واختيار المشاهد والتنقل بحرية.
- الفضاء المسرحي الجديد: تقدم عروض المسرح الرقمي في بيئات حقيقية (مقهى، مطعم، قصر، باخرة، منتجع سياحي) بدلاً من صالات المسرح التقليدية.
- تعدد الشخصيات: تعتمد كل الشخصيات على مبدأ اللعب والارتجال ويصبح وجودها ضرورياً للحفاظ على متعة المتلقي.
- غياب الكواليس: يتم الاستغناء عن مداخل ومخارج الممثل والاكتفاء بنقاط دخول وخروج افتراضية، كما يتم الاستغناء عن المشاهد والمناظر والفصول التقليدية والاكتفاء بوصف طبيعة الزمن لبداية الحدث الدرامي.
المسرح الرقمي.. تساؤلات تنتظر أجوبة
هل يمكن أن تنتهي المسرحية كنص مطبوع على الورق لنجد بديلاً لها على الشبكة العنكبوتية؟ وهل يمكن تخيل العرض المسرحي بكليته عبارة عن دمى تتحرك بتقنية مبرمجة يتحكم بها الجمهور رقمياً؟
وهل سنفقد ذلك التلاقح الوجداني والفكري المباشر بين الممثل على خشبة المسرح والمتلقي في الصالة لنعيش بدلاً منه تفاعلاً عبر الشاشة الإلكترونية؟
إذا كان أنصار المسرح التقليدي يرفضون فكرة المسرح الرقمي ويعتبرونه نوعاً من العروض التي تسعى للاستفادة من التكنولوجيا الرقمية بما توفره من عناصر فنية في مجال الصوت والصورة والخدع والمؤثرات البصرية والسمعية، فإنهم يرون أن لذة الإمتاع الحميمية التي يشعر بها الممثل على خشبة المسرح بامتزاج مشاعره مع مشاعر الجمهور ستظل حالة متفردة من الصعب أن تحققها الأشكال الوليدة.
ويظل المسرح فناً للفرجة معاشاً يتعانق فيه الانفعال والوجدان والشعور، وهو ما لا تحققه الشاشة التقنية لأنها ليست قادرة على اقتفاء الروح الكامنة في الممثل.
لذلك يبدو المسرح الرقمي بحاجة إلى دراسة جميع جوانبه وانتظار ما يحمله المستقبل عنه، خصوصاً أن المسألة ترتبط بعوامل عدة منها العامل الزمني المستقبلي المرتبط بالوعي الرقمي والثقافة الرقمية وبالإيمان بأن الثورة الرقمية حققت حضورها وينبغي الإفادة من مدياتها العلمية الجديدة وتوظيفها في المجالات الأدبية والفنية، ويقف المسرح في مقدمة هذه المجالات.


ذو صلة