دخلَ علينا بشوشاً لينا، ليجلس على الأريكة، فنحلق حوله، لا يتوقف عن الكلام بطلاقة، كأننا نعرفه من زمن، بالرغم من أنه أول يوم تصوير بفيلم (الجسر، 1998) للمخرج عمرو بيومي.
- أنا قلت لصلاح أبوسيف -وقت تصوير (فجر الإسلام)- خلِّ نهاية شخصيتي (الحارث) بمشهد لي، وأنا سائر وحدي في الصحراء، فلا يعرف المتفرج إن كان أسلم أم لا، وتكون نهاية الشخصية غير تقليدية، لكن (صلاح أبوسيف) قال لي:
- لازم كله يعلن إسلامه في النهاية، يا محمود.
قال كلماته، بأسلوبه الودود ليكسر حالة الرهبة معنا في بدء التعارف، ونحن لازلنا ننصت له في انبهار لتاريخه الفني الحافل، ونبتسم من القلب لحكاياته التي تتسللها أحياناً ضحكاته الساخرة من تناقضات النفس البشرية، كما يراها من وجهة نظره. وشاء القدر أن يحقق لي حلماً بعيداً، لأرى وأتحدث مع عملاق التمثيل، بل إن مهنتي مساعد مخرج، وقتها جعلت احتكاكي مباشراً، حميماً؛
هو: محمود مرسي بك محمود (7 يونيو 1923 - 24 أبريل 2004)، بدأ ممثلاً هاوياً في كلية الآداب بمدينته الإسكندرية، عبر قيادة لا ينسى فضلها من الرائد جورج أبيض (صاحب المدرسة الصوتية في الأداء المسرحي)، حيث أخرج له مسرحية (أوديب)، وبعد التخرج بقليل أنفق كل ميراثه من أبيه المحامي (صاحب لقب البكوية)، ليسافر قاصداً دراسة الإخراج السينمائي في باريس، ثم بعدها يعمل مذيعاً بالإذاعة البريطانية، لكن سرعان ما يتركها غير نادم، لرفضه سياستها ضد بلده مصر إبان حرب (1956)، فنلمح هنا أول سمات تكوينه الإنساني، في التضحية بكل ما هو مُغرٍ، في سبيل المبدأ. (فهو البطل الوحيد في السينما الذي قام بتمثيل 25 فيلماً فقط بإرادته، لرفضه أن يكرر نفسه أمام جمهوره)، ثم يعود إلى مصر، ليصبح من رواد المخرجين في (التلفزيون) عند إنشائه عام 1960.
- اجتمع بنا مرة عبدالقادر حاتم، وأمرنا أن كل التمثيليات، تكون ذات توجه سياسي اشتراكي، ولما اعترضت، أصر حاتم على تنفيذ الأمر، فتركت بعدها التلفزيون.
ثم أشاح بذراعه الطويل مستنكراً، ومعبراً بعدها عن تفضيله ممارسة التمثيل عن قيامه بالإخراج، فهي مهنة (مُهلكة) على حد وصفه.
منهجه التمثيلي
لا يختلف كثيراً (محمود مرسي) الإنسان عن الممثل قبيل التصوير، فهو ليس من مدرسة الاندماج التام (زكي رستم، فيفيان لي..)، ولا مدرسة الممثل (آل باتشينو، أحمد زكي..)، تلك المدرسة التي تتطلب الإحساس بالحواس الخمس للموقف الدرامي عبر تجربة واقعية حياتية للشخصية المؤداة، تبعاً لتعاليم لي ستراسبرج مؤسس هذه المدرسة؛ لكن (محمود مرسي) كان أقرب إلى نهج أحد أعظم ممثلي العالم مارلون براندو، الذي رفض طريقة مدرسة الممثل، واقتنع -براندو- بفكر أستاذته (ستيلا إدلر)، حيث وجدت أنه قد لا يملك الممثل التجربة الحياتية للشخصية، فكيف سيكون عمل الذاكرة الانفعالية له، لاستحضار الإحساس، ورد الفعل، وروح الشخصية؟! لذا كانت تدريباتها تنصب على أن يتخيل الممثل أحاسيس الدور، وفق الظروف الموجودة بالمشهد، وتبعاً لطبيعة الشخصية في إطارها الدرامي المكتوب، لا خارجه، ورأت أن عمل خيال الممثل أكثر تأثيراً من استعمال خبرته الشعورية، في رسم الشخصية عن طريق التجربة المعاشة بحذافيرها، وإلا ماذا لو كان الدور لقاتل مجرم مثلاً؟!
في إطلالة عابرة على بعض أدواره (السينمائية)، كفيلم (التلاقي، 1974) إخراج صبحي شفيق، في دور الدكتور كمال المحبط بسبب الفساد في المستشفيات، والبحث العلمي، فيهاجر حزيناً لتنفيذ مشروعه العلمي بالخارج، وهو يودع بلده، عند المطار صامتاً، بنظرة حنين، وبإيماءة من وجهه يختزل فيها مشاعر الإحباط، في مناجاة قلبية لحظية، ثم لا تصدق أنه نفسه (عم ناشد) مالك الأرض في (العنب المر، 1964) لفاروق عجرمة، حيث تتراوح في كيانه، نوازع الطيبة، وقوة الشخصية معاً، مستغلاً تعبيرات ملامحه الأخاذة، وتعامله مع حركة جسده، وذراعيه.
ولا يفوتنا تجربته المتفردة باللهجة التونسية لشخصية الحداد (للأمين)، فكان موفقاً، وبسيطاً، في مشاهده المحدودة، بالفيلم التونسي المهم (الشمس الضبّاع، 1976) لرضا الباهي، وقد لا يعرف الكثير أنه قدم دور أستاذ جامعي ومريض نفسياً، بالفيلم القصير (مأساة الدكتور حسني، 1973) لحسين الوكيل، يعتمد فيه على التحكم في تقلب أطوار الشخصية، وعلى القفزات الانفعالية المضحكة، كأن يغني واقفاً فجأة أغنية راقصة (العتبة جزاز) بكل جدية، أمام طلابه في المحاضرة.
ثم نتوقف عند تفصيلات مدهشة له في (زوجتي والكلب، 1971) لسعيد مرزوق، فتأمل مثلاً: نظرات الشك في (لقطة مكبرة) تجسدها عيونه، في أول مشهد، لفيلم جوهر لعبته الدرامية هو الشك، فنظرات عينيه هي مفتاح سحري للولوج في قلب الشخصية، يعتمد عليها مع إعطاء التعبير المحدد لعضلات الوجه، دون تزيد، أو استعراض بلا داع، وهنا تكمن نقطة من أهم نقاط تميزه، واختلافه عن ممثلين آخرين جيدين جداً، لكن في مستوى متأخر عنه، فهم لا يستطيعون خلق نفس التعبير الصادق على الوجه، وبنفس البساطة، والتأثير دون افتعال. أيضاً تمكنه من حركة الجسد الراقصة في نفس الفيلم، يعبّر بها -حركياً- على البحر، عن انتشائه بفحولته الجنسية، بما يتماشى مع تكوين شخصية (الريس مرسي).
أما صوته فهو لا شك من أقوي أدواته التي يتلاعب فيها بمهارة، على خلايا الاستقبال للمتفرج، فهو يتعامل مع الكاميرا، وميكروفون السينما بوعي شديد، وانظر: لتحديق عينيه، وصُفرة وجهه، عندما يرسل نظرته في لقطة متوسطة مكبرة (Medium Close - up) لنور الشريف، محاولاً إخفاء شكوكه، في تصرفات زوجته الغائب عنها، قائلاً له:
- أصلها لوحدها..
ثم ينتقل صوته، بسلاسة، كما تنتقل أوتار الآلة الموسيقية من مقام إلى مقام، بينما تكاد تعصف بعقله زوابع القلق، قائلاً، بطبقة خفية موجعة:
- لوحدها يا نور.. فاهم؟!
ونفس هذه الدرجة الشديدة الحساسية بأدائه الصوتي، وتعبير عضلات وجهه الطيعة جداً؛ نجدها كثيراً في كل أدواره، مثل المحامي عمر الحمزاوي في فيلم (الشحات، 1973) لحسام الدين مصطفى، وهو يبحث عن حقيقة وجود الله، فينطلق صوته بكلمة واحدة فقط تحمل روح سطور نجيب محفوظ، من عذابات رحلة الشك الوجودي، وهو يسأل (شويكار)، بعدما تخبره بإيمانها بالله:
- بيقين؟!
فيعبر بتلك الكلمة، عن ضياعه الداخلي، وبحثه عن ما يقنع عقله، فينقذه من الغرق في العدم.
أيضاً رد الفعل غير التقليدي في التفاتة جسده الذي يجمده فجأة، محدقاً لثوانٍ قليلة في صمت، تجاه وجه (نادية لطفي) في فيلم (السمان والخريف، 1967) عندما تطلب منه -في أول تعرفه عليها- 50 قرشاً، فكأنه وجد شيئاً في طلبها مس إحساسه، أو ذكّرَه بنفسه عندما كان يمد يديه، ليقبض رشاوى مالية في عمله الحكومي المرموق، ثم يعود لسابق انفعاله باحتقارها، قابضاً على تناغم اللحظة الشعورية المضطربة، بعد تلك النظرة الثابتة، والالتفاتة الجسدية التلقائية، بما تحمله من تأويلات متعددة!
فهو ممثل غير عادي، لا يريد أن يبهرك بالمعنى السطحي، بل يريدك أن تصدقه، بعد أن وصل لأبعد نقطة في العالم الداخلي للشخصية، حتى النقطة التي يكف عندها الممثل أن يكون ممثلاً، ويصبح إنساناً في الجوهر بمثل ما وصف المخرج البريطاني العظيم بيتر بروك في كتابه (النقطة المتحولة): الغاية من تقنيات الأداء التي ابتكرها المخرج البولندي (جروتوفسكي).
ولا أزل أذكر جيداً، عندما طلبت منه تذكر أي توجيه استفاد فيه من المخرج حسين كمال، في رائعتهما (شيء من الخوف، 1969)، فشرد بصره نحو فضاء الذاكرة، مجيباً:
- في مشهد دخول (عتريس) بيت (فؤادة) لطلب الزواج، أنا أديته بشراسة، وعصبية، لكن (حسين) قال لي: لا يا مرسي، ادخل بهدوء، كأنك ملك، وواثق جداً من موافقة أهلها.
ثم هز رأسه متمتماً، ببسمته الحانية:
- وفعلاً (حسين) كان عنده حق، والمشهد ظهر أحلى، وأقوى.
نهايات أفلامه
لرقي موهبته الربانية، وهبة الحضور الطاغي (Charisma) لديه؛ لم يجد المخرجون الذين عمل معهم نهاية لأفلامهم، أفضل من اللقطة المقربة (Close up) لوجهه المشع بالتعبير، فهو الممثل صاحب أكبر عدد من اللقطات المقربة له في نهايات أفلامه، مثل: (الشحات، من يدفع الثمن، أغنية على الممر، سعد اليتيم، الخائنة، السمان والخريف..).
فنجد لقطة النهاية أو ما قبلها، وهو يبكي في (الخائنة، 1965) أحد أروع أفلامه مع المخرج كمال الشيخ.
وكذلك كانت (اللقطة المقربة) في نهاية (سعد اليتيم، 1985) لأشرف فهمي (رغم الميلودراما التجارية الفاقعة)، لاسيما وهو يحرك رأسه كالأسد الجريح يمنة ويسرة، حين يطلب منه فريد شوقي قتل ابن أخيه سعد.
ويفاجئنا في نهاية فيلم (أغنية على الممر، 1972) لعلي عبدالخالق، بانفعال الجندي المصري الصامد، مدافعاً عن جدوى استشهاد الكثير من الجنود في الجيش، دون نصر ملموس، ومن غير أن يشعر بهم أحد، وقت هزيمة حرب 1967، فينقل لك إحساس ومعنى الوطن، وهو يشرف على الهلاك مع جنوده الباقين، وتتدفق طاقته التعبيرية بنظرات عينيه النافذة، وبصوت يرتفع قليلاً عند كلمة (الأرض)، وهو يقول:
- ماتوا للدفاع عن الأرض..
وترتعش شفتاه رعشة تلقائية، مع هزة عابرة من كتفه، فينقل لك تلك القشعريرة التي رجفته من داخله.