تواصل شهد أمين مسيرتها السينمائية، وتتوجها بفيلم (هجرة)، المتوج بجائزة (اتحاد شبكات ترويج السينما الآسيوية) (نتباك) في مهرجان البندقية السينمائي الدولي، واختياره من قبل هيئة الأفلام لتمثيل المملكة رسمياً في سباق الأوسكار المقبل عن فئة أفضل فيلم دولي، تأكيداً على قيمته الفنية العالية، إذ يجمع الفيلم بين دهشة المتفرج وتأمل الناقد، دون أن ينحاز لأحد الطرفين، بل يخلق توازناً بين الشعرية والسرد.
من يتتبع المسار الإبداعي للمخرجة شهد أمين، مروراً بفيلمها (سيدة البحر) الذي لمع في مهرجان البندقية السينمائي عام 2019، ومثّل المملكة في سباق جوائز الأوسكار لعام 2021؛ يلحظ ثبات رؤيتها التي تمزج بين الأسطورة والواقع لتفكيك علاقة المرأة بمصيرها، ففي (سيدة البحر) خرجت المرأة من الماء إلى اليابسة في مواجهة قدرها ضمن مشهد فانتازي لا يُمحى من الذاكرة، لتعود أمين في (هجرة) معيدة صياغة تلك المواجهة ضمن جغرافيا مغايرة، حيث تتحول اليابسة: الرمل والجبل وتضاريس الصحراء إلى ميدان صراع جديد، وهنا تكتمل دورة العناصر في سينما شهد: من الماء إلى التراب، ومن ثنائية اللون إلى اكتمال لوحتها، والتماهي مع المكان انطلاقاً من تأريخ الرحلة عام 2001، ونقطة البداية المتمثلة بالطائف وجبالها، وقربها من مكة، ومكانتها في قلوب المسلمين، وموقعها على اليابسة باعتبارها مركز الأرض، بل واستحضار الجمل كرمز للمصير الملتبس، إذ يتجلى أولاً في مشهد مصرعه بوصفه ضحية لعطف إنساني لا يعي نتائجه، ثم يعود في اللقطة الختامية كصدى لقدَر لا فكاك منه.
بلاغة الصورة لا بلاغة الكلمة
شهد أمين تمزج الواقعية بالرمزية في جلباب شعري، حيث تتعامل مع الصورة كما يتعامل الشاعر مع الكلمة، تنتقي كوادرها لتحكي بالصورة ما لا يستطيع الحوار قوله، وهذا ما يدركه المشاهد من خلال مشاهد الجدة (خيرية نظمي) أو ستي كما يحلو لشخصيات الفيلم تسميتها، وتعبيرات وجهها الناطق بالكثير من الأسى واللوعة والهجرة، فمن خطوات الجدة الأولى حتى اللقطة الأخيرة، تتنفس الصورة بلاغتها الخاصة، حيث تتحول الصحراء إلى قصيدة، والرمل إلى صدر، والجبل إلى عَجُز، وبياض الثلج إلى وزنٍ خفيّ، فمن مشهد الحجاج في الباص، وعجز ماسحة الزجاج عن تصفية الرؤية، تؤكد أمين أن الوضوح ليس شرطاً للفهم، وأن الظل يمكن أن يكون قافية تُرى ولا تُنطَق، دون أن تهمل الرمزيات المنثورة واختياراتها الواعية بانطلاق قطيع الخراف عقب انطلاق الباص مباشرة، وعزم كل من على هذه الأرض لاختيار هجرته التي يعرفها.
الانحياز الفني
تنحاز شهد أمين للفن والشعرية، ويتجلى ذلك في اختياراتها البصرية في رحلتها السينمائية، وتجد ذلك جلياً في اختيارها للوني الأبيض والأسود في (سيدة البحر)، وكذلك اللقطات الواسعة، والرمزية العالية للتعبير عن الموضوعات التي تشغلها تجاه المرأة، فمن يعرف مسيرتها السينمائية يجدها لم تتخلص بالكامل في فيلم (هجرة)، وإنما تخففت قليلاً من الإغراق في الشعرية، وهذا ما منح الفيلم مساحة سردية يتواصل من خلالها المشاهد، ويرحل حسياً وروحياً مع الفيلم وأحداثه، ويصحب شخصياته في رحلة تتجاور فيها الجغرافية الحسية مع الرحلة الروحية التي تُعيد تعريف معنى الهجرة.
إن الأحداث منذ بدايتها، تعدنا بعقد تواصلي ينطلق من العنوان (العتبة الأولى) في الفيلم، وهو (هجرة)، ويبدأ بمجموعة من الحجاج، من بينهم عائلة مكونة من الجدة، وابنتين سارة وجنى (لمار فدان)، وينطق المكان والزمان، المتمثل في الميقات، وأيام الحج، وتجسيده لهذه العائلة ورحلتها المركبة ابتداء بقرار الرحلة/ الحج الذي لا يمكن أن يكون إلا في هذه البلاد التي خصها الله ببيته، وقرار الجدة الأخير بترك الرحلة والانطلاق للبحث عن حفيدتها، حيث تمارس حجّاً آخر؛ حجّاً نحو الداخل، حيث يُعاد تعريف الإيمان، وتُختبر المحبة، وتُستعاد الذات عبر الذاكرة والرمل، فتأخذنا في رحلة مركبة بتنوع الأماكن، والناس، ومرور الزمان.
برفقة الحفيدة الأخرى جنى والسائق أحمد (نواف الظفيري)، تبدأ الجدة رحلة عبور عبر الصحراء القاسية والطرق الوعرة، لكنها في الحقيقة رحلة عبر الزمن، إذ تسترجع ذكريات الطفولة والشباب، وتكتشف التقاطع ما بين هجرة لم نشاهدها من قبل سارة، إذ تترك المخرجة للمخيال أن يعمل في صناعة كل مشاهد لفيلمه الخاص تجاه رحلة سارة التي لم نرها، وترينا شيئاً من السرد لرحلة الجدة الأولى بتذكر وصولها مهاجرة إلى هذا المكان، وما مرت به من صعوبات، فما بين كثبان الرمل وصمت المسافة، تتحول الصحراء إلى مرآة كبرى، يرى فيها كل جيل صورته في الآخر، وهكذا يبدو (هجرة) فيلماً أكثر تصالحاً مع واقعيته، دون أن يفقد روحه الشعرية التي تميّز تجربة شهد أمين، وفتحها لأفق التأويل.
الانتصار للنكرة
إنّ (الهجرة) التي تتناولها شهد أمين ليست انتقالاً جغرافياً، بل هجرة معنوية، لذلك كان التنكير نصيبها منذ العنوان، لتترك مساحة لا تمتلكها سوى النكرة، محتفية بالعادي؛ لتسع كل من يشاهد الفيلم من أجل أن يصنع كلٌّ هجرته، ولتتسع لكل شخصية من شخصيات الفيلم.
استعرضت أمين أكثر من هجرة ممثلة في الجدة أولاً، ومجيئها طفلة، وما نشاهده من عزمها على الحج، وَحَيْدة عنه لممارسة هجرة أخرى، وذلك من خلال النية المؤجلة لأداء الحج التي عطلّها شرود سارة، والبحث عنها، فالمسافة التي تقطعها الجدة بحثاً عن حفيدتها ليست سوى المسافة التي تقطعها الجدة نحو نفسها، فهجرتها لا نعلم بدايتها، كما لا نتملك يقيناً من نهايتها بموت الجدة ورحيلها، وذلك بفنتازية النهاية التي تعيدنا لانحياز شهد أمين للشعرية والسريالية، ولو تخففت منها كثيراً، وعلى ذلك نقيس على أحمد الذي يصحبهم في هجرة من أجل المال، وهجرة من أجل الرجولة، وهجرة من أجل الإنسانية، وهجرة مشروخة لم تكتمل بمخالفته لأنظمة البلاد، وتخيل ما نشاء لسارة وهجرتها التي انتهت بدار للحماية يمنعهم من الوصول إليها، كما يمنعهم الدين والعرف والمجتمع من الهجرة والوصول لزيارة الجد في المقبرة!
إن الانقطاع عن الوصول يذكرنا بخطوط سكة حديد الحجاز التي ظلت شاهدة على الزمن، دون أن توصلك إلى أي مكان سوى الحنين والذاكرة تجاه الماضي، فطريق الجدة منذ هجرتها الأولى ما هو إلا صلاة طويلة، صلاة بالمعنى اللغوي المصحوب بالدعاء لهذه الأسرة أن تتم هجرتها في هذه الحياة، فالفيلم يجعل للهجرة أكثر من معنى، وللحج معنى جديد يكتبه المشهد الأخير.
الهجرة التي لا تنتهي
في اللقطة الأخيرة، الأكثر سريالية وشعرية، تتحول الجدة إلى جمل، لا كتحوّل غرائبي، بل كاكتمال لدائرة الحلول، وكأن الروح قد استعادت شكلها الأول، واندمجت في رمزها الأصيل، حيث تتحول الهجرة من فعل خارجي إلى تحوّل جوهري، من الجسد إلى المعنى، من الفرد إلى الطبيعة، في استثمار عميق لمفهوم تناسخ الأرواح وعودة الروح إلى جسد أشدّ احتمالاً.
فيلم (هجرة) من تأليف وإخراج شهد أمين، ومن إنتاج مشترك بين فيصل بالطيور، أيمن جمال، محمد علوي، محمد حفظي، علي الدراجي، وعبود عياش، وبدعم من هيئة الأفلام السعودية، وصندوق البحر الأحمر، وفيلم العلا، ونيوم، وإثراء.
إن ما يبقى بعد كل هذه الأسماء الكبيرة من جهات وشخصيات هو الأثر، وهذا الفيلم من الأفلام التي لا تمر دون أن تترك أثراً لدى المشاهد، وفي مسيرة المخرجة، التي يلمس المتتبع التصاق هذا الفيلم بتجربتها، ويستطيع أن يقول هذا هو فيلمها الذي يستحق أن تفخر به، فلكل مبدع عمل يمثله، وهذا الفيلم نستطيع أن نشاهد شهد وخياراتها الفنية متضحة بجلاء على صعيدي السرد والشعرية السينمائية، فهو هجرتها إلى الصورة والمعنى، وهجرة المشاهد إلى قراءة ما وراء الرمز، حيث يهرب مع الجدة من الحياة للالتحام بها، ويعود الجمل الذي في داخلنا جميعاً ليقود القافلة نحو أول الطريق: طريق الإنسان إلى ذاته.