مجلة شهرية - العدد (589)  | أكتوبر 2025 م- ربيع الثاني 1447 هـ

الأغنية الليبية هوية يُعاد تشكيلها عبر العصور

ما يميز الأغنية الليبية بساطة كلماتها ودقة تعبيرها وجمال لحنها وتنوعها الثقافي، فلا تستطيع تحجيم الأغنية الليبية في لون محدد أو نمط معين، ما جعلها تصل وتعبر الحدود.
بدأ انتشار الأغنية الليبية مع تأسيس الإذاعة الليبية في أواخر الخمسينات واستمر حتى ظهور لون جديد في التسعينات.
إذا ما تحدثنا عن الموشحات الأندلسية ومزجها بألحان عربية فإننا نتحدث عن المألوف التي اشتهرت به ليبيا وأبرز فنانيها محمد العريبي.
لم تتوقف الأغنية الليبية عند هذا الحد، بل إن تنوعها شمل العديد من الأنماط والأذواق، فبجانب الأغنية الشعبية كانت هناك الأغنية الكلاسيكية العاطفية أو ما يعرف أيضاً بالأغنية الطرابلسية، والتي كانت تتميز ألحانها بالانسيابية والرصانة، وكان من أشهر الكتاب الشاعر عمر الحريري، ومن الفنانين راسم فخري وسلام قدري، ومن الملحنين كاظم نديم وغيرهم.
ما كان يميز هذه الأغنية أيضاً هو ارتباطها بالمدينة، فكانت أغلب الأغاني تعبر عن نمط المدينة الجميل، مثل أغاني الفنان سلام قدري: (عرجون الفل) (النخل والديس).
وكانت للأغنية العاطفية مكانة كبيرة، فقد تغنوا بالجمال الليبي واصفين إياه: (مربوع الطول) (سافر مازال) (من القلب ولا العين). ومن الأغاني العاطفية المعروفة أيضاً للفنان عادل عبدالمجيد: (هز الشوق حنايا الخاطر)، وللفنان محمد صدقي: (طيرين في عش الوفاء).
لم ينسَ أبناء المدينة كما أبناء البادية حب الوطن، فكانت أغنية (لو تؤمريني فوق نسمة نجيك يا ليبيا) من أشهر ما غنى الفنان سلام قدري.
انتشار الأغنية الليبية عربياً
عرف عن الأغنية الليبية تنوعها ليس فقط في الألحان والأنماط والألوان، بل أيضاً في تناولها للقضايا العربية.
فقد كانت أغنية (وين الملايين) من أشهر الأغاني التي ساندت القضية الفلسطينية وعبرت عنها بكل قوة، وقد اجتمع فيها الفنانون العرب من كل مكان.
كذلك تغنّى بالأغنية الليبية كبار الفنانين والفنانات، منهم وردة الجزائرية التي غنت (ليالي الغربة)، وكانت من ألحان الفنان محمد حسن، وأيضاً غنى الفنان وديع الصافي، فايزة أحمد، عبد الهادي بالخياط، وميادة الحناوي، وغيرهم الكثير من ألحان الموسيقار علي ماهر.
كذلك فقد لحن ناصر المزداوي ومحمد الرحيبي للعديد من الفنانين العرب في تونس ومصر خاصة.
أما ذكرى محمد فقد كان لها نصيب الأسد في الأغنية الليبية.
كل هذا ساهم في انتشار الأغنية الليبية دون المساس بهويتها وشكلها.
أما إذا انتقلنا إلى الأغنية العاطفية والبدوية، فإننا بالطبع نتحدث عن الفنان محمد حسن وأغانيه، منها (يسلم عليك العقل) التي لاقت رواجاً كبيراً ليس فقط في ليبيا، بل انتشرت لدى الجيران: تونس، الجزائر، المغرب.
كان لنوع الموسيقى وكلماتها دور كبير في هذا الانتشار، فالشعوب كانت تتلاقى في طبيعتها المشتركة، وهذا ما ساهم في انتشار كبير للأغنية الليبية التي عُرفت بهويتها وطبيعتها.
توسّع هذا الانتشار ليصل إلى فلسطين، الأردن، وكذلك السعودية، لتكون أغنية (طق العود) من أشهر الأغاني وقتها في الوطن العربي.
والجدير بالذكر أن هذه الأغاني لم تكن تعتمد على البهرجة ولا الإنتاج الكبير في الصورة كما هو الحال اليوم، بل ما كان يميزها هو بساطتها وانعكاس الصورة لطبيعة وثقافة الشعب وقتها آنذاك.
انتشار الأغنية الليبية عالمياً
كما أنه كان هناك لون آخر فريد وصل للعالمية، طائراً غرد شارداً لوحده ليصل صوته وأنغامه للعالمية الفنان أحمد فكرون، والذي تميزت أغانيه بألوان عصرية، متفوقاً على الزمن والمكان بلحنه وأدائه.
فانتشرت أغانيه في إيطاليا، بريطانيا، فرنسا، ليس فقط في ليبيا.
كانت ألحانه وكلماته تعبر الحدود، وأحيا الكثير من المهرجانات وسجل في الكثير من الإذاعات العالمية منها مونت كارلو.
بعد رحلته الطويلة العالمية عاد إلى أرض الوطن ولموطنه الأم بنغازي.
أغلب ألبوماته سجلت في لندن وباريس وميلانو، ومنها: (شوارع المدينة)، (أوعدني)، (نجوم الليل)، (عابر الزمن).
ولا تزال الأغنية الليبية في جعبتها الكثير، فلم تقتصر على هذه الأنواع والألوان فقط، بل كان هناك فن آخر ونوع آخر في الشرق الليبي يدعى فن المرسكاوي، وهو نسب بدايةً إلى الجنوب من مدينة مرزق، ثم انتشر في مدينة بنغازي والشرق الليبي.
ما يميز هذا النوع قربه من الناس، فقد كان يُغنى في الأفراح والمناسبات، ويُعتبر طرباً خاصاً بألحان مميزة مختلفة، وقد بدأ مؤخراً في الرواج عربياً.
جيل جديد ولون جديد
ظهر جيل جديد ونوع جديد من الأغنية والموسيقى الليبية، حيث كان حميد الشاعري شاهداً على هذه الانتقالية، فقد قدم نوع موسيقى جديدة مختلفة لاقت رواجاً بين جيل التسعينات.
أيضاً الفنان أيمن الهوني والشاب جيلاني.
ما كان يميز هذا الجيل ليس فقط الموسيقى واللون الجديد في الألحان، بل كان فكرة ارتباطهم بالأغنية وهويتها، حيث أنهم عاصروا كلاً من الفنان محمد حسن وغيرهم ممن سبقوهم.
لذلك نجد أنهم، وإن جددوا الموسيقى وابتكروا ألواناً جديدة، فإنهم يقدسون ويحترمون هوية الفن والأغنية الليبية.
ورأينا ذلك من خلال تجديد أغنية (وعيوني سهارة) للفنان سلام قدري من الفلكلور، من قبل الفنان الشاب جيلاني.
بعد انتفاضة فبراير
أتاحت الانتفاضة المناخ والفرصة للجيل الجديد للتعبير عن أنفسهم بطريقة جديدة مختلفة تماماً عن السابق، فقد ظهرت وانتشرت الأناشيد المشجعة للانتفاضة وقتها، والأغاني الشعبية المساندة لها.
ومن ثم ظهر اللون الذي ظهر في أغلب البلاد التي شهدت انتفاضات وقتها، ألا وهو الراب، اللون الشبابي المعبر، الساخط، والرافض لكل القيود من المجتمع والفئة الحاكمة.
نال هذا اللون شعبية ورواجاً كبيراً بين الشباب، وقد امتزجت أعمال الراب بخليط بين الشعوب والثقافات في تعبير عن سخطهم من الانغلاق وعدم فتح آفاق للتواصل بين الشباب.
فقد اعتبروا هذه الانتفاضات كسرت الحدود بينهم، ولكن السؤال الأهم: هل الحدود انكسرت وتحطمت معها كل المعايير والقوانين؟ وهل الحرية المطلقة في الموسيقى هي ما كان ينشده الشباب؟ أم أنها كانت موجة فنية عابرة؟
الانفتاح والعولمة
قد ساهم هذا الانفتاح والعولمة في انتشار هذا اللون (الراب) في الأوساط الشابة تحديداً، ولكن سرعان ما بدأ في التخبط، فلم يكن هناك قواعد صلبة يقف عليها، بل كان لوناً يعبر عن الحرية دون أي خطوط حمراء.
ثم ظهرت ألوان أخرى أيضاً، منها الوطنية أو التي تغنت بحب الوطن، وكانت أيضاً خاصة بوقت ومناسبة معينة.
أما اللافت فكان ظهور اللون الأمازيغي، والذي ظهر أيضاً عقب انتصار الانتفاضة، ولكنه نجح نجاحاً باهراً لما له من اختلاف عن سابق الموسيقى المعروفة في ليبيا، فقد كان له لحن مميز وجميل يأسر المستمع، وبخاصة أنه قدم بصوت نسائي مميز ولحن رائع.
انتشرت الأغنية الأمازيغية وقتها، وكانت بداية لظهور لون جديد أيضاً في الأغنية الليبية.
ولكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فبدأت أصوات نسائية كثيرة بالظهور والغناء، وهو ما كان غير متعارف عليه في ليبيا، فالأصوات النسائية كانت تقتصر على اسم أو اثنين، مثل الفنانة سالمين زروق وتونس مفتاح، نظراً لخلفية وثقافة الشعب المحافظ.
وكذلك كانت هناك أصوات عربية نسائية يتم الترويج لها دون المحلية، نتيجة هذا الموروث الثقافي، مما سمح للمرأة الليبية بالدخول وبقوة لهذا المجال، وإعطاء هوية وطابع جديد للأغنية الليبية.
كذلك هناك تنافس اليوم في الأغنية العاطفية وحتى في مقدمات بعض المسلسلات، ونرى نجاحاً لافتاً في هذا الجانب للأغنية الليبية.
أيضاً ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في انتشار الأغاني الليبية ولكن بصورة مختلفة، فقد تغير اللحن والكلمات وطريقة الأداء.
مصير الأغنية الليبية اليوم
إن الموسيقي اليوم تعتبر أداة من أدوات التعبير خصوصاً لجيل الشباب فقد عبر الكثيرون عبر أغانيهم عن عدة قضايا بطريقة احترافية حيث ناقش الفنان عيسى بن دردف العديد من القضايا عن طريق الموسيقى وأغاني الرب بطريقة مختلفة ومميزة منها أغنية عن أحلام وطموحات الشباب حول شكل دولة ليبيا الاقتصادي وكيف يمكن الاستفادة من ذلك وعرفت الأغنية باسم (وحشة الثروة) كذلك عبر في إحدى أغنياته عن معاناة شباب ليبيا من الوضع الحالي ومأساة الهجرة غير النظامية وكان للأغنية واقعها الكبير على الشباب والأسرة الليبية حيث اهتمت الأغنية باللحن والكلمات وأيضاً جانب التصوير في الفيديو كليب من ناحية الدراما والشخوص والجودة مما جعل الكثير من الشباب يتأثر بشكل إيجابي، عرفت الأغنية باسم (يا بحورنا) مثل هذه الأغاني عبرت عن مدى وعي الجيل بالوضع الحالي للبلاد والمسؤولية الملقاة على أكتافهم.
حقيقة نستطيع القول إن هذا التغير يدق ناقوس الخطر، فطالما بأنه لا يوجد نقابة فنانين ولا معاهد خاصة تدعم تعليم الموسيقى والفن بشكل عام فإن نوع الكلمات والموسيقى، وجودة الأداء واللحن تتغير كل يوم دون النظر لقواعد أساسية يبني عليها الجيل الحالي هوية الأغنية الليبية أو مراعاة لها.
ذلك لا يعني بأنه لا توجد أغانٍ جيدة اليوم، بل هناك أنواع وألوان جديدة ناجحة جداً وانتشرت عالمياً، مثل أغاني التحدي (كيف الصقر) وأغانٍ باللون المرسكاوي الشعبي مع مزيج من الموسيقى والتوزيع المعاصر (هابتين وهابا) وغيرها.
كذلك كانت هناك محاولات الملحن تامر العلواني بمشروع قابل للتنفيذ يأسس لوناً معاصراً شبابياً دون أن ينسى اللحن الليبي ولون الأغنية الليبية ولكن وافته المنية قبل استكمال هذا المشروع.
وهناك نوع جديد طرأ على الساحة ويلقى رواجاً في مواقع التواصل الاجتماعي، وهو لا يمتّ للون الليبي ولا الأغنية الليبية بصلة: موسيقى من هنا وهناك، وكلمات ممزوجة بلهجات أخرى، الغرض منها سرعة الانتشار دون المراعاة لمضمون الكلمة ومعناها.
فالأغنية الشعبية اليوم في خطر كبير، فما يُغنى في بعض الأفراح والمناسبات الشعبية لا يمتّ للثقافة الليبية بصلة، مجرد كلمات بلا معنى ولا مفهوم، مع إيقاعات صاخبة لا علاقة لها بفرح ولا بحزن، ولا تعبر عن شيء سوى ملء فراغ.
مع ذلك، لا تزال العائلات الليبية تتمسك بفنها وأصالتها، فلا تزال الزكرة -وهي نوع من الموسيقى- تُعزف وتُدق الطبول في الأفراح والمناسبات.
ما يميز الأغنية الليبية هو أصالتها وتنوعها الثقافي، ومع وعي شعبها وتكاتف جهود المثقفين، نستطيع أن نعيد تشكيل الأغنية الليبية المعاصرة دون المساس بأساسيات وهوية الأغنية الليبية.

ذو صلة