مجلة شهرية - العدد (589)  | أكتوبر 2025 م- ربيع الثاني 1447 هـ

العرض المسرحي السعودي (طوق).. حين يتحول طوق (الزمن) إلى مسرح داخلي حي

من خلال دور المسرح الجوهري في الكشف عن اللاوعي الجمعي والصراعات المدفونة داخل المجتمع، والتي لا يُفصح عنها بشكل مباشر، فهو ليس مجالاً للنقاش حول حاجات اجتماعية، إنما هو فن تعرية الذات. فالمسرح الجيد لا يقدم إجابات جاهزة، بل يثير الأسئلة مما يدفع المتلقي إلى التفكير والنقاش، وهذا ما يشكل نواة الوعي الجمعي والتغيير المجتمعي.
من هذا المنطلق يطالعنا العرض المسرحي السعودي (طوق) تأليف (أحمد بن حمضة) وإخراج (فهد الدوسري) ضمن فعاليات وعروض المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في دورته الـ32، على خشبة (مسرح الفلكي) بالجامعة الأمريكية بوسط القاهرة.
تدور أحداث العرض داخل مكتب تابع لإحدى الشركات، حيث نرى خمسة موظفين يعيشون حياة مملة خالية من أي أحداث، يجدون أنفسهم مضطرين إلى مواجهة صراعاتهم داخل هذه الحياة التي تشكّل طوقاً يقيدهم ولا يستطيعون الفكاك منه إلا بكسر رتابة الزمن الذي يعيشون فيه.
الفعل هنا فعل (التكرارية) هو المحرّض الرئيسي لانفعالات الممثل، كما أنه يوحد الفكر والشعور والمخيلة والتعبير الجسدي للممثل (الشخصية) في كلٍّ لا يتجزأ، في زاوية باهتة من الحياة اليومية داخل مكتب يشبه آلاف المكاتب حيث تصطف الطاولات، وتتكرر الوجوه، وتتوالى الساعات كأنها نسخ مكررة من زمن واحد.
المسرح وسيطاً لطرح الرغبات
إذا نظرنا إلى العرض المسرحي (طوق) من منظور التحليل النفسي، فإننا نجد في أفكار (سيغموند فرويد) إطاراً تفسيرياً عميقاً لفهم العلاقة بين العرض المسرحي واللاوعي. فقد اعتبر (فرويد) أن الإنسان تحركه رغبات ودوافع مكبوتة غالباً ما يتم التعبير عنها بطرق غير مباشرة، وهو ما يجعل المسرح (وسيطاً مثالياً) لإخراج تلك الرغبات والدوافع من ظلمة اللاوعي إلى ضوء الوعي، من خلال إعادة تشكيلها وعرضها بصرياً أمام المتلقي (المتفرج) الذي بدوره يخضع لتجربة (تطهيرية) تُحرّك لا وعيه هو أيضاً. وفي هذا السياق يصبح المسرح بمثابة جلسة علاج نفسي جماعية، حيث عمل العرض على كسر الجدار الرابع، فلم يبقِ الممثلون في حدود الخشبة التقليدية بل تواصلوا مع القاعة وألغوا المسافة الفاصلة بين فضاء التمثيل وفضاء التلقي.
كما نجد أن المخرج (فهد الدوسري) ركز على فكرة الانفصام النفسي والشعوري في لغة (علم النفس)، وفقاً لتقسيم العالم النفسي (فرويد) للشخصية إلى ثالوث (الهو)، و(الأنا الاجتماعية)، و(الأنا العليا) في تشكيل الهيكل الفكري العام للعرض الذي ينظم الأحداث التي تجسد رؤيته، ثم بسط الهيكل الفكري تبسيطاً ذكياً ليصبح في متناول المتفرج العادي وداخل دائرته المعرفية، مما يجعلنا نتساءل: هل (الروتين) المعني به العرض هنا أزمة حياتية أم صرخة إنسانية في وجه الحياة؟
يطرح العرض العديد من الأسئلة الفلسفية التي تتعلق بفكرة الانتظار والسكون الكامن الناتج عن القيود التي يصنعها الإنسان لذاته داخلياً، فتتحول بالتالي إلى قيود اجتماعية خارجية، تعمّق قضية فلسفية أخرى وهي فكرة الصراع بين (الأنا والآخر) الناتج عن فكرة الصراع بين (الأنا والأنا)، حيث يتحول حديث النفس الذي ينبثق من ضمير المتكلم إلى حوار أو جدل يجمع ضميري المتكلم والمخاطب أي (الأنا والأنت).
كما يطرح بعض الأسئلة الوجودية عن جدوى هذه الحياة: هل الزمن حقيقة موضوعية أم مجرد وهم صنعه الإنسان لتنظيم الحياة؟ هل يمكننا الهروب من الزمن أم أننا دائماً أسرى حركته؟ وهل يمكن أن تمنحنا الحياة لحظة ما فرصة للتصالح مع الزمن؟
بين النص والعرض
اعتمد العرض على (البناء الدائري)، حيث يبدأ بلحظة زمانية درامية معينة، ثم تتوالى المشاهد التي تعيد إحياء الزمن وتنتهي عند النقطة نفسها مع احتمال تجاوزها. هذا البناء يخدم الفكرة الرئيسية حول الصراع الداخلي (للشخصيات) عبر الروتين اليومي وإمكانية الفرار منه، من خلال التكرار المقصود وكسر التسلسل الزمني المعتاد، مما يعيد تأويل الأحداث مرة أخرى من زوايا متعددة ومختلفة.
كما تعامل المخرج (فهد الدوسري) مع كل مفردات الديكور في العرض باعتبارها عناصر درامية فاعلة، ومع كل مناطق الفضاء المسرحي باعتبارها علامات دالة. فتحول هذا الفضاء في مجموعته وجزئياته إلى جسد درامي حي يتشكل ويتحول ليعبر في جدلياته المكانية والحركية وتحولاته العلامية عن بنية النص ودلالاته العميقة والظاهرة. وإذا كان عنوان العرض المسرحي (طوق) يمثل نموذجاً لغوياً لبنية النص فقد أوجد المخرج نموذجاً تشكيلياً على غراره داخل الفضاء المسرحي، حيث أصبح بمثابة العتبة الأولى للدخول إلى العالم الدرامي للعرض المسرحي.
معادلات تشكيلية بليغية
لقد جاءت السينوغرافيا لـ(فيصل العبيد) عنصراً درامياً فاعلاً يبسط دلالات الحدث ويكثفها شعورياً، يشغل الفضاء المسرحي طولاً وعرضاً وارتفاعاً تجسيداً مرئياً لمعنى الواقع، كان في آن واحد مكاناً مسرحياً خارج النفس تتحرك فيه الشخصيات وسجناً معنوياً داخل النفس يكبّل أحلامها وطموحاتها.
كما استغل عمق (خشبة المسرح) بشكل جيد من خلال وضع (الساعة) التي تصدرت عمق خشبة المسرح كرمز بصري كثيف الدلالة وكأنها مركز الثقل الزمني الذي تدور حوله الشخصيات وتتحرك في فلكه الأحداث. لقد بدت الساعة كأنها تراقب المشهد في صمت بارد، تحيل الزمن من خلفية غير مرئية إلى بطل صامت حاضر بقوة.
كما لعبت الإضاءة لـ(عبدالله بو قرصين) أيضاً دوراً فعالاً من حيث التنقل بين درجات الإضاءة الباردة والدافئة لدعم تلك الحالة الشعورية، كذلك جاءت الملابس مناسبة لروح العرض وملائمة للشخصيات الدرامية، مع اهتمام بالتفاصيل الدقيقة من الملحقات (الإكسسوار).
وفعل نفس الأثر الإعداد الموسيقي، فقد جاء معبّراً عن الحالة الشعورية للنص المسرحي كما ساعد على إيصال تأثيرات حسية ونفسية تخلق الجو الروحي العام للعرض المسرحي.
أداء تمثيلي سلس وتلقائي
اتسم أداء الممثلين بالسلاسة والتلقائية، ما أضفى على العرض طابعاً إنسانياً حياً يخلو من الافتعال والتصنع. فقد نجح كلٌّ من (شهاب الشهاب، خالد الهويدي، عبدالعزيز الزياني، فاطمة الجشي، مريم حسين، وأحمد الذكر الله) في تجسيد شخصيته بدرجة عالية من الصدق الداخلي، مما جعل التفاعل بينهم يبدو طبيعياً ومتناغماً. هذه العفوية المتمكنة كشفت عن حب حقيقي وصدق فني لما يقدمون.
هكذا قدم العرض المسرحي (طوق) على مسرح (الفلكي) تأليف (أحمد بن حمضة) وإخراج (فهد الدوسري) إنتاج فرقة (فن بوكس) عرضاً مسرحياً يتناول أزمة الإنسان المعاصر مع ذاته والضغوط النفسية والاجتماعية. عرضاً لا يزعم امتلاك الحقائق بل يوقظ وعينا نحو احتمالاتها المتعددة، فالمسرح فعل المقاومة ضد السكون الفكري ومساحة حرة للتأمل في الإنسان ومصيره، فحين تُطفأ الأضواء ويُسدل الستار لا ينتهي العرض، بل يبدأ داخل كل متفرج مسرح داخلي من الشك والتساؤل؛ فهذا هو المسرح الأصدق والأبقى.

ذو صلة