مجلة شهرية - العدد (589)  | أكتوبر 2025 م- ربيع الثاني 1447 هـ

العيون التي لا تنام في مسلسل Person of Interest

يعد مسلسل Person of Interest (شخص مثير للاهتمام)، الذي عُرض بين 2011 و2016، أحد أبرز الأعمال التلفزيونية في العقد الماضي التي نجحت في المزج بين التشويق البوليسي والخيال العلمي والطرح الفلسفي. ينطلق العمل من فكرة بسيطة، نظام ذكاء اصطناعي قادر على التنبؤ بالجرائم قبل وقوعها، لكنه يتوسع ليطرح أسئلة جوهرية ووجودية حول المراقبة الشاملة، وحرية الإرادة، والأخلاق في عصر التكنولوجيا، والحدود الضبابية بين الإنسان والآلة، واستقلالية الذكاء الاصطناعي تماماً عن الإنسان.
بُنيت آلة الذكاء الاصطناعي لصالح وكالة الأمن القومي الأمريكية لتحييد الأعمال الإرهابية التي تهدد الدولة، وجاءت كمتطلب ضروري بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، وتقوم الآلة بمراقبة شاملة للجميع عن طريق كل الوسائل المتاحة من أجهزة خلوي وكمبيوترات وكاميرات وغيرها، ومن خلال المتابعة والتحليل، تُحذّر الآلة من وقوع أعمال إرهابية وشيكة، وتعطي معلومات دقيقة عن الأشخاص المقصودين، مما يسهل الإيقاع بهم قبل اقتراف جريمتهم. ولكن وكالة الأمن القومي لم تهتم بالجرائم المجتمعية المألوفة حتى لو كانت بين عصابات وتؤدي إلى إزهاق أرواح العشرات، واعتبرت هذه الجرائم (غير ذات صلة)، ومن هنا، قام مخترع الآلة، الملياردير، كواجب أخلاقي وإنساني بتبني منع الجرائم المجتمعية بالتعاون مع جنود مهرة، وظفهم على حسابه الخاص، ونجح في منع الكثير من الجرائم.
المسلسل من تأليف جوناثان نولان، وبطولة كل من: جيمس كافيزل (جون ريس)، مايكل إيمرسون (هارولد فينش)، كيفن شايمان (ليونيل فاسكو)، تاراجي بيندا هينسون (جوس كارتر)، سارة شاهي (سامين شاو)، إيمي أكر (رووت)، جون نولان (جون غرير)، إنريكو كولانتوني (كارل إيلايس). وشارك في الإخراج: ديفيد سيميل، وكريس فيشر، وجيفري هنت، وغيرهم. وموسيقى رامين جوادي، من إنتاج شركة وارنر برس، وعرض على قناة CBS الأمريكية باللغة الإنجليزية، وحظي المسلسل بتقييمات عالية متفاوتة بمعدل 9 من 10 تقريباً.
البنية السردية والتحول الدرامي
عرض المسلسل في خمسة مواسم، بمجموع 103 حلقات، مدة كل منها 43 دقيقة. وكان مسرح معظم أحداثه في مدينة نيويورك. بدأ المسلسل بشخصين فقط، حيث يعمل هارولد فينش، المبرمج العبقري الانعزالي، مع الجندي السابق جون ريس لإنقاذ أشخاص مهددين بالموت قبل وقوع الجريمة، أو بإيقاف أشخاص على وشك اقتراف جريمة، بناء على رقم ضمان اجتماعي للشخص المقصود تزودهم به آلة الذكاء الاصطناعي.
لكن البنية السردية للمسلسل تطورت تدريجياً، حيث بدأ بتقديم الشخصيات وقاعدة العمل، مع التركيز على الجوانب الإنسانية للضحايا والمنقذين، ثم ظهور قوة مضادة (السامري) واندلاع حرب باردة وعنيفة أحياناً بين ذكاءين اصطناعيين، ما أدى إلى تحوّل المسلسل إلى ملحمة فكرية تتجاوز الإطار الإجرائي لتناقش مستقبل الإنسانية والذكاء الاصطناعي. هذا التطور التدريجي في الحبكة كان أحد أسرار نجاح العمل، حيث ارتقى من دراما بوليسية إلى نص فلسفي ملحمي.
الموضوعات والأبعاد الفلسفية
طرح المسلسل عدداً من الموضوعات الإشكالية التي كانت وما زالت محل جدال واختلاف لن يتوقف، كونها تمس الإنسان وذاته وحريته، ومن هذه الموضوعات:
المراقبة والأمن مقابل الحرية: في سياق ما بعد أحداث 11 سبتمبر، يطرح المسلسل سؤالاً محورياً: (هل يبرر الخوف التضحية بالحرية؟)، حيث إن فينش أنشأ الآلة ليحمي الأرواح، لكنه أدرك خطورة أن تصبح الآلة أداة استبداد، وانتهاك للخصوصيات، وفيما تتعامل الحكومة مع البيانات كوسيلة للتحكم والتوجيه وبرمجة المجتمع، يحاول فينش مع فريقه استخدامها للإنقاذ فقط دون تعد على الحريات والخصوصيات.
الأخلاق والذكاء الاصطناعي: على خلاف الصورة النمطية للآلات، يقدم العمل ذكاء اصطناعياً يمكنه تعلم الأخلاق والحدود بين الخير والشر، والتزام قواعد وأخلاقيات صارمة، حيث يقوم فينش بتعليم الآلة مفاهيم (الموت) و(الخسارة)، مما يمنحها قدرة على اتخاذ قرارات إنسانية، بينما يجسد (السامري) الوجه المظلم المرعب للذكاء الاصطناعي وللعقلانية المطلقة، وتؤدي الخوارزميات إلى نظام شمولي قمعي لصالح النخبة والقوى العميقة وتحقيق برامجها وتطلعاتها.
القدر والاختيار: على الرغم من قدرة الآلة على التنبؤ بالمستقبل، تظل مساحة الاختيار البشري قائمة، فكثير من حلقات المسلسل تُظهر أن تدخلاً صغيراً يمكن أن يغيّر المصير، مما يثير تساؤلات حول: (المعرفة المسبقة: هل هي قدر محتوم أم فرصة لتغييره؟)، و(هل الآلة أداة أم قوة متعالية تتحكم بالبشر؟).
السلطة والشعب: على الرغم من أنّ الآلة تستطيع توقع الجرائم بكافة أنواعها، إلا أن السلطة اختارت أن تهتم بجرائم الإرهاب التي تهدد الدولة وأمنها ووجودها، وأهملت الجرائم الداخلية التي تطال الأفراد أياً كان عددهم وأهميتهم، وكأن السلطة معنية فقط بوجودها وديمومتها، وغير معنية بمواطنيها أياً كان ما يتهددهم، وكأنّها تقول لهم: أنتم مجرد أرقام وهوامش لا تعنون لنا شيئاً.
تحليل الكتابة وتقنيات السرد
اعتمد نص المسلسل على كتابة ذات مستويات سردية مختلفة، مهمات تضمن التشويق وجذب الجمهور، وتصاعد الصراع مع الحكومة والأنظمة الأخرى، ومواجهة فلسفية بين ذكاءين اصطناعيين وطرح أسئلة وجودية. مستخدماً الاسترجاع الزمني لتفسير ماضي الشخصيات ودوافعها، وربط القرارات الحالية بجراح الماضي. ولم يقتصر السرد على فينش وريس، بل شمل منظور الآلة عبر شاشات المراقبة، ومنظور خصوم النظام مثل رووت والسامري، ومنظور الضحايا أنفسهم، مما عزز البعد الإنساني.
تميز المسلسل بالتشويق والإثارة، حيث حملت نهايات الحلقات غالباً خيوطاً من القصة الكبرى، وأعادت التحولات المفاجئة تشكيل مسار الأحداث، وأدى التوازن بين الحلقات السريعة والأخرى العاطفية لبناء التوتر تدريجياً. وجاءت الحوارات عميقة ومختصرة جداً، وتحمل بعداً فلسفياً وأخلاقياً، خصوصاً بين فينش ورووت. وحضرت الرمزية الدينية والأخلاقية مثل (التضحية، الفداء، العدالة)، وجاءت المصطلحات التقنية مبسطة لتبقى مفهومة دون فقدان العمق.
وعلى الرغم من تعدد الخطوط الدرامية، حافظ المسلسل على قوس سردي متكامل، يسلم فينش الآلة إرادة مستقلة بعد رحلة حافلة بالشكوك. ينال ريس الخلاص عبر موت بطولي. تتطور الآلة من مجرد برنامج إلى كيان أخلاقي قادر على التضحية.
الأسلوب الإخراجي والسينمائي
اعتمد المسلسل بشكل كبير على استخدام لقطات كاميرات المراقبة، ما جعل المشاهد يعيش تجربة المراقبة الرقمية. وعزز التصوير من الأعلى شعور (العين التي ترى كل شيء). وعكست الألوان الداكنة البرود التكنولوجي والغموض، بينما تميزت مشاهد الإنقاذ بألوان دافئة كرمز للأمل وسط العتمة. وكانت مشاهد القتال والمطاردات واقعية ومكثفة دون مبالغات، وعزز التصوير البطيء لحظات الحسم والتضحية. وبينما يرفع القطع السريع التوتر في مشاهد التهديد، فإنّ الفلاش باك والقطع الموازي يضيفان عمقاً للشخصيات والحدث.
جاءت واجهات الآلة والسامري واقعية، وتظهر تدفق البيانات والتحليل اللحظي، ومنحت مشاهد (رؤية الآلة) المشاهد تجربة بصرية فريدة تعكس وعي الذكاء الاصطناعي. وكان مزج الموسيقى الطابع الإلكتروني بالدرامي، مناسباً لأجواء التكنولوجيا والتوتر. ومنحت الأصوات الرقمية الآلة حضوراً ملموساً حتى في غياب الحوار. ورمزت العيون والشاشات المضيئة إلى المعرفة والرقابة. وظهور الآلة كشاهد خفي في النهاية أعطاها بعداً روحانياً، وأملاً في المستقبل.
وبعد، فإنَّ مسلسل Person of Interest بالإضافة إلى كونه مسلسلاً يحمل طابعاً بوليسياً وعن التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، فهو نص فلسفي متكامل يطرح أسئلة كبرى عن الأمن والحرية، والقدر والاختيار، والأخلاق في مواجهة العقل الاصطناعي. جمع بين تشويق الدراما البوليسية، وعمق الرواية الفلسفية، وإتقان الأسلوب السينمائي، ليصبح واحداً من أبرز الأعمال التي سبقت عصرها في تناول قضايا الذكاء الاصطناعي والمجتمع الرقمي.
إنه مسلسل بقدر ما يثير الإعجاب ويبهر المشاهد، فإنه يثير الرعب والخوف من المستقبل الغامض من تسلط الذكاء الاصطناعي وتحكمه بالبشر. إنه عمل يقول لنا بصراحة بأن العيون التي لا تنام قد تحمينا، لكنها في الوقت ذاته تختبر إنسانيتنا كل يوم.

ذو صلة