مجلة شهرية - العدد (589)  | أكتوبر 2025 م- ربيع الثاني 1447 هـ

فيلم ( أعاصير ) السينما وتوقع الأزمات المناخية

كانت السينما -دوماً- وسيلة أساسية لعكس مختلف الظواهر الطبيعية في شاشتها الفضية، وأحياناً إلى التنبؤ والحدس بوقوع مجموعة من الأحداث المرتبطة بتقلبات المناخ والطبيعة وآثار هذا التحول الكوني على مستقبل البشرية، وعلى حياة مختلف الكائنات في هذه البسيطة. ولطالما شكّلت الكوارث الطبيعية مادة خصبة للسينما، حيث تُصبح الطبيعة بطلاً مدمّراً يختبر هشاشة الإنسان وتقدّمه العلمي.
وقد استشرفت السينما العالمية -منذ بدايتها- جوانب من الوقائع التي ستقع في الحاضر والمستقبل، والتي كان يعتقد أنها قصص من الفن والخيال لا أكثر. فقد تحققت -على أرض الواقع- العديد من هذه الأحداث التي نقلتها السينما وجسدتها عدسات المخرجين، خصوصاً فيما يتعلق بالأوبئة والكوارث الطبيعية. فهل هذا مجرد محض صدفة في عوالم الفن السابع، ورؤية اعتباطية تعبر عن دهاء المبدعين في قراءة المستقبل والتنبؤ بالقادم من الأحداث؟ أم هو مخطط كوني تحاك خيوطه بتدبير وإحكام لتهيئة البشرية لتلقي جرعات من الصدمة، والاستعداد لوقوع هذه الكوارث والتفاعل معها ومعايشتها كأمر عادي وطبيعي، حتى ولو خلفت مصرع الملايين؟!
فكثير من نظريات المؤامرة الرائجة اليوم، ترجع العديد من الكوارث الطبيعية التي يتعرض لها العالم إلى تخطيط متعمد تنهجه البلدان الكبرى للتلاعب في المناخ والتجريب في التضاريس الجغرافية براً وبحراً. أضف إلى ذلك ما تتعرض له الكرة الأرضية من تخريب وتدمير مدبر، بفعل التلوث الطبيعي واستنزاف الثروات الطبيعية (النباتية والحيوانية والبحرية) والتصحر والاحتباس الحراري وتبذير مصادر الطاقة المتجددة..إلخ. وهي عوامل ساهمت بدرجة كبيرة في نشر فكرة التآمر الدولي ضد الطبيعة والمناخ والأرض والإنسان، بهدف الحد من الكثافة السكانية المرتفعة والتحكم في التطور الديمغرافي المتزايد، وضبط معدل النمو البشري مع حجم الثروات الطبيعية، بهدف تحقيق التوازن بين نسبة الإنتاج ونسبة الاستهلاك.
إن السينما بخيالها الخصب وأبعادها الفنية والجمالية المثيرة لصور متعددة مشابهة للواقع، تنبأت بالتقلبات الطبيعية التي تهدد العالم، ونقلتها بدقة وصدق عن طريق تجسيدها في أعمال سينمائية كثيرة. وذلك بتوظيف مؤثرات صوتية وبصرية، ووسائل تقنية حديثة تخلق الوهم البصري وتستند على مجموعة من الخدع السينمائية التي تقارب ما يجري في العالم. وتدريجياً أصبح هذا الخيال الخصب وكأنه استباق واستشراف لما سيقع في مستقبل الكرة الأرضية، ولما سيعايشه الناس واقعاً وحقيقة.
وينجذب كثير من عشاق السينما إلى أفلام الكوارث البيئية، خصوصاً أنها ثيمة تشد هوس المتفرجين وتثير عشق المشاهدين وتأسر ألباب المخرجين والفنانين. وحتى وإن كان العديد من هذه الأعمال محاكاة لكوارث حدثت في الماضي، أو تجسيداً لمآس عرفها العالم في العديد من أجزائه الجغرافية (براكين، زلازل، أعاصير، فياضانات..)، فإن الكثير من الأفلام السينمائية توقعت حدوث بعض من الظواهر الطبيعية المختلة في هذا الكوكب، فتحققت رؤيتها الفنية في الواقع المباشر، وخلفت خسائر فادحة نتيحة ذلك.
وتعالج أفلام التنبؤ بالكوارث من Twister 1996 إلى The Perfect Storm 2000 وGeostorm 2017 العلاقة الملتبسة بين الإنسان والطبيعة، من جهة، تعرض هذه الأفلام تقدّم العلم في مجالات الرصد الجوي والنماذج الرقمية ومحطات المراقبة، ومن جهة أخرى تظهر محدودية هذه الأدوات حين تواجه غضب الطبيعة المتقلب. فغالباً ما تكون الشخصيات عالقة بين إرادة التنبؤ بالمستقبل لتجنّب الكارثة، وبين واقع الفشل المتكرر في إيقافها. وهذا التوتر الدرامي بين (العلم) و(القدر) هو ما يمنح هذه الأفلام عمقاً فلسفياً خفياً، حتى في ظل طغيان المؤثرات الخاصة.
ولا تكتفي أفلام الكوارث الطبيعية بعرض الدمار، بل تحمل أحياناً رسائل بيئية مشفّرة، تنتقد تغيّر المناخ أو الاستغلال المفرط للطبيعة. في The Day After Tomorrow مثلاً، يتحول التغير المناخي إلى محرّك رئيس للأحداث، ويصبح الإعصار أو الفيضان أو التسونامي، نتيجة حتمية لعبث الإنسان بالنظام البيئي. كذلك في فيلم(Dont Look Up 2021) -وإن لم يتناول الأعاصير حرفياً- نجد أن الفشل في التنبؤ أو الاستجابة لكارثة كونية يصبح مرآة للإنكار الجماعي تجاه التحولات المناخية الراهنة. هكذا تُقدّم السينما ليس فقط كوسيلة للتسلية أو الإثارة، بل كإنذار من مستقبل محتمل، تمزج فيه الخيال بالاحتمال العلمي.
كما أن السينما تطرقت مراراً لتأثير ظاهرة الاحتباس الحراري على حياة البشرية في عالمنا الراهن. فمثلاً فيلم 2012 يصور مشاهد من نهاية العالم بسبب طوفان مدمر، وهناك أفلام أخرى حذرت من التدخلات الإنسانية السلبية في الطبيعة والمناخ والتي ستخلف آثاراً وخيمة ومرعبة إن هي استمرت، وهذا ما يقع اليوم في كوكبنا بشكل مرحلي وتدريجي.
والأعاصير التي اجتاحت العالم مؤخراً هي في مشاهدها نسخ شبيهة بما شاهده جمهور السينما في العديد من الأفلام، على غرار الشريط الأمريكي الشهير Twister، الذي أنتج عام 1996. فقد تمكن الفيلم من تحقيق نجاح جماهيري باهر في شباك التذاكر، رغم غياب هالة النجوم عن مشاهده، وعدم حضور أبطال الصف الأول في أحداثه.
يعد هذا الشريط من أوائل الأفلام التي استثمرت التقنيات البصرية الحديثة، وتميز بتوظيف العديد من المؤثرات المرئية المتطورة والخدع السينمائية البارعة، بهدف خلق عالم تخييلي مبهر مماثل لما هو في الواقع، ومقارب لصورة الكارثة الإنسانية ونتائجها الوخيمة على الأرض وكائناتها الحية. الفيلم من إخراج جان دي بونت وبطولة هيلين هنت وبيل باكستون وفيليب سايمور هوفمان.
يحكي شريط twister قصة فريق علمي مسؤول عن دراسة الأعاصير وطرق تكونها ونشوئها منذ لحظتها الأولى إلى أن تصل ذروتها وأقصى قوتها. وهو من بين الأعمال السينمائية البارزة التي اهتمت بالبيئة واختلالاتها الراهنة، كونه رصد مجموعة من مشاهد الدمار والخراب التي عرفتها بعض المناطق الأمريكية بسبب الأعاصير الشديدة، ببراعة في التصوير والتوضيب والتخييل، وجمالية في نقل اللحظة ومتابعة الصدمة، ودقة في محاكاة الظاهرة وعكس الكارثة.
كما أن مصداقيته الفنية في الإعلان عن الحدث والإعلام بأهواله وانعكاساته، جعلته قريباً من الحقيقة وملامساً لما يجري في الواقع من أعاصير وعواصف قوية، لدرجة أن بعض المنصات الإعلامية كان يختلط عليها الأمر، وتعرض صور الفيلم على أنها من الكوارث الحقيقية التي عايشها الناس.
فيلم Twister لا يصنَّف واحداً من أبرز أفلام الكوارث في التسعينات فقط، بل يمثل لحظة مفصلية في علاقة السينما بالعلم، وبالأخص علم الأرصاد الجوية. إنه فيلم عن التنبؤ بالكوارث الطبيعية، ولكن ليس بوصفها نبوءات غيبية، بل عملية علمية دقيقة ومعقدة، تُبنى على الملاحظة، والتحليل، والتجريب الميداني.
في قلب الفيلم، نجد جهاز «دوروثي»، الذي ابتكرته الشخصية الرئيسة جو هاردينغ وزملاؤها، ليُطلق في قلب الإعصار بهدف التقاط بيانات جوية آنية. هذا الجهاز لا يرمز إلى الأمل في تقليص زمن الاستجابة للكوارث فقط، بل يعبّر عن فكرة أن التنبؤ ليس ضرباً من التنجيم، بل هو مقاومة معرفية للدمار. إن مطاردة الإعصار، بكل ما تحمله من خطورة، ليست تهوراً، بل ضرورة علمية، يُحتمل فيها فقدان الحياة من أجل حماية حياة الآخرين.
يمثل الفيلم محاولة درامية للاقتراب من فهم الظواهر الجوية المتطرفة، وكيف يمكن تحويل هذه الفوضى الطبيعية إلى معلومات منظمة. ورغم أن الفيلم يضخم أحياناً من قدرة العلم على المواجهة، فإنه لا يسقط في فخ الأسطرة أو المبالغة الخارقة. بل على العكس، يُظهر محدودية أدوات العلماء وصعوبة جمع البيانات وسط الفوضى، مما يُضفي على الفيلم بعداً إنسانياً: العلم ليس معجزة، بل مجهود محفوف بالمخاطر والتضحيات.
إن العلاقة بين Twister والتنبؤ بالكوارث الطبيعية تتجلى كذلك في رسالة الفيلم الضمنية: أن الفهم المسبق للكوارث قد لا يمنع حدوثها، لكنه قد يتيح الاستعداد لها، والتقليل من آثارها، وإنقاذ أرواح لا تُقدّر بثمن. وبذلك، يتحول الفيلم إلى دعوة مبطّنة لدعم البحث العلمي وتمويل مشاريع الاستشعار المبكر، وجعل العلم في خدمة الأمن المجتمعي.
إن السينما في تعاملها مع الظواهر البيئية، تنبهنا إلى أخطار تحدق بالبشرية جمعاء، وتدق جرس الإنذار لما سيقع مستقبلاً على سطح هذه البسيطة من كوارث مفزعة قد تبطش بملايين الناس، وتفتك بالعديد من الكائنات الحية التي تخلق التوازن البيئي في كوكبنا، ولربما تقضي على العديد من عناصر الطبيعية التي تشكل داعماً أساسياً للحياة في هذا الكون. ولهذا فقد ذهب العديد من المفكرين والباحثين المؤمنين بنظرية المؤامرة إلى اعتبار أن ما يشهده العالم اليوم من تزايد لمعدلات هذه الكوارث، وتضاعف للآثار الناجمة عن الاختلال البيئي، راجع بالأساس إلى سياسات قصدية مستهدفة، مخططة ومدبرة عن عمد من طرف الدول العظمى المسيطرة على بؤرة السياسة والاقتصاد والعلم في العالم.
حيث يوجه أصحاب هذه النظرية أصابع الاتهام إلى الدول العظمى، لكونها تستهدف السيطرة على العالم عبر تصدير أزمة تغيير المناخ ومشكلة الاحتباس الحراري بهدف الحصول على تمويل ضخم لهذه الغاية. بينما يرى آخرون أن هذه الدول تتحكم في سيرورة هذه الكوارث الطبيعية، عبر التلاعب في الجو وتعديل الطقس وهندسة المناخ.
ومن أبرز الشخصيات التي دعمت هذا الطرح الأمريكي داين ويجينجتون الذي ربط الجفاف الذي حدث في كاليفورنيا في الفترة الممتدة من 2011 إلى 2017 بسياسات متعمدة كانت تستهدف وضع مواد كيماوية تستعمل للتأثير على السحب الممطرة. وذلك بمنع هطول الأمطار والحد من انتشارها وكبح حركية السحب الغائمة، ويجري ذلك بفعل وجود عدد كبير جداً من نوى تكثيف السحب، أو «بذور السحب» في مكان محدد، وتركيزها في منطقة واحدة.
هكذا نصل في الختام، إلى التأكيد على دور السينما في رسم معالم السياسات الدولية فيما يخص قضية المناخ والتحولات الطبيعية المستقبلية، ولو بطريقة غير مباشرة. ذلك أن السينما تقدم لنا أعمالاً استشرافية للواقع والمستقبل، حتى وإن كانت طبيعتها الفنية إبداعية تخييلية، بعيدة عن محاكاة الواقع والتماهي مع حقائقه.

ذو صلة